تونس | يحيي التونسيون اليوم مرور عام على اندلاع أولى شرارات الثورة الكرامة في تونس، التي قضت على 23 سنة من حكم الرئيس المخلوع بن علي، الذي مارس جميع أنواع التنكيل والتخويف والإرهاب في حق شعبه، ليحكمهم بالحديد والنار، قبل أن يتحول بعد ثورة الكرامة إلى «مزبلة التاريخ». ثورة اندلعت ذات يوم من أيام كانون الثاني، انطلاقاً من مدينة سيدي بوزيد الداخلية، التي حُرمت منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، أبسط مقومات الحياة العصرية والكريمة، لتغرق في الفقر، وتكون بمثابة نموذج عن «الحب في زمن الكوليرا»، حب الحياة في أرض باتت بلا حياة. سيدي بوزيد كانت من أكبر شواهد الحرمان، في وقت قفز فيه «طاعون» عائلتي الطرابلسية وبن علي ليستولي على كل مناحي الحياة، حتى أصبح القوم يتندرون بـ«أنهم سيستغلون الهواء لبيعه للناس». ذلك التغول الذي حوّل الدولة إلى مربض للفساد، ومرتع للجهلة لتقرير مصائر الناس، والتحكم في حياتهم، أصاب الكل بالشلل، حتى جاء ذلك «اليوم الموعود» الذي ضرب فيه محمد البوعزيزي موعداً مع التاريخ، ليحرق جسده، ويشعل البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، على امتداد شهر كامل، ليجبر «الطاغية» على الفرار بجلده إلى السعودية.
لهذا لم يكن من المستبعد أن تكون سيدي بوزيد مهد الشرارة الأولى، في الربيع العربي، مركزاً للاحتفال بذكرى اندلاع الثورة في السابع عشر من كانون الأول، حيث أُقيمت الاحتفالات بهذه الذكرى بمشاركة عدد من الشخصيات العربية والأجنبية وأعضاء المجلس الوطني التأسيسي التونسي، في تأكيد على أنه في ذلك اليوم تغيرت الخارطة العربية، وكانت الثورة إيذاناً بالمرور إلى زمن جديد، وعصر آخر، يأمل الجميع أن يكون ناصعاً لا حالكاً مثل العصور التي سبقته. الاحتفالات انطلقت رسمياً في منتصف الليلة الفاصلة بين 16 و17 كانون الأول، بعرض لألعاب نارية تضيء سماء مدينة سيدي بوزيد الحالكة في الليالي الباردة، وتؤسس لغد قد يكون مشرقاً. حتى عربة البوعزيزي ستكون موجودة وحاضرة، لكن في شكل تمثال منحوت، على شكل «عربة لبيع الخضار والفواكه، تحيط بها مجموعة من الكراسي المبعثرة» في مشهد كاريكاتوري يذكّر بتدافع الكراسي أمام العربة الفقيرة التي أطاحت العروش.
برنامج الاحتفالات التي ستتواصل على مدى ثلاثة أيام، سيتضمن العديد من الفعاليات السياسية والثقافية والفنية، التي ستكون انعاكساً لما أفرزته ثورة الكرامة في المشهد السياسي الجديد، من لوحة فسيفسائية سياسية جديدة، لم يتعوّدها لا التونسي ولا العربي.
مشهد اجتمع فيه أكثر من 100 حزب سياسي بين يمين ويسار، قوميين، وإسلاميين، وسلفيين، وعلمانيين، وحتى ملحدين، كانوا في موعد جديد مع الحرية، التي كان بعضهم قد دفع ثمنها سجناً، وقهراً وتعذيباً. المشهد السياسي كان بعد الرابع عشر من يناير، مفتوحاً على جميع الاتجاهات، حكومة جديدة في شكل قديم سرعان ما سقطت تحت أقدام معتصمي «القصبة الأولى»، ثم حكومة ثانية كان لها نفس مصير الأولى تحت وطأة معتصمي القصبة الثانية، التي نادت لأول مرة بمجلس تأسيسي يعيد بناء الحياة السياسية والقانونية لتونس، ويعلق العمل بالدستور القديم (دستور 1959).
أمسك الباجي قائد السبسي بزمام الأمور في السلطة المؤقتة للإعداد لانتخابات المجلس، التي شهدت تونس فيها بداية عودة الهدوء والسلم الأهلي، في فترة كانت قد بدأت في ليبيا ثورة دموية لإطاحة «حكم غليغولا» الليبي، وهو ما سبب هوة كبيرة أثرت اقتصادياً في وضعية البلاد المتردية. إلّا أن حنكة «حكومة التكنوقراط السبسية» كان لها فضل في المحافظة على الهدوء إلى حد بعيد، في وقت تناثرت فيه على الرقعة الجغرافية التونسية حركات إضراب جماعية بشأن الوضعيات الاجتماعية، وزيادة الرواتب، وهذا ما كان يمثل وقوداً للأحزاب السياسية، التي دخلت في جدال عقيم سيطر على الحوار بينها، وحوار الهوية، حوار الحجاب والعلمانية والإسلامية.
ذلك الجدال وصل إلى حالة من الاحتقان في الشارع، أجّجتها بعض وسائل الإعلام، وتلاعبت بالمشاعر، فكانت تلك ضربة سياسية للأحزاب العلمانية ومشروعها في انتخابات المجلس التأسيسي، وكانت بالمثل رهاناً جديداً للحركات القومية والإسلامية، ما سمح للنهضة بتحقيق أغلبية في الجمعية التأسيسية، وسمح لها بأن تدير المشهد السياسي المتمخض عن الانتخابات، في أول انتخابات فعلية تشهدها تونس منذ الاستقلال سنة 1956.
ولعل تلك النتائج هي التي كانت وراء إنتاج مشهد سياسي جديد توزعت فيه الأدوار بين دورين رئيسيّين، وهما محور «سلطة الترويكا»، المكونة من ائتلاف ثلاثي جمع التكتل من أجل العمل والحريات، والمؤتمر من أجل الجمهورية، وحركة النهضة الإسلامية، في تفاعل براغماتي صارخ بين حزبين علمانيين وحزب إسلامي، والمحور الآخر، وهو محور المعارضة المتكونة في الأساس من أحزاب وحركات يسارية ارتأت أخيراً الانخراط في صلب جبهة معارضة في المجلس التأسيسي.
وفي المجمل، فإن الثورة التونسية استطاعت أن تخطو بخطى ثابتة نحو القطع مع نظام المخلوع البائد، إلا أن الخوف يبقى من إعادة انتاج دكتاتورية جديدة... وهي «دكتاتورية الجماعة».