اليرموك | أذكر جدتيَّ الاثنتين، لأبي وأمي في ثمانينيات القرن المنصرم، كانت جدتي لأبي كلما سمعت طبول تشييع الشهداء هرعت إلى الشارع لتسمع أسماءهم، قدماها تسبقان بعضهما بعضاً في الطريق المؤدي إلى الشارع الرئيسي للمخيم، لحظة وصولها تبدأ بالسؤال: من هم، وأين استُشهدوا، هل ابني عصام بينهم؟
نسير معاً مع التشييع لنصل إلى مفرق شارع المدارس، هناك تلتقي مع جدتي لأمي، التي تكون حينها قد هرعت من صفها في مدرسة المنصورة لتسأل من هم، وأين استُشهدوا، هل ابني عليّ النحوي من بينهم؟
تلتقيان، وتكتفيان بـ «الله يرجعهم سالمين غانمين، ولا يفجع أم بابنها، ويجعل يومنا قبل يومهم».
سنون من القلق عاشتها الأمهات في المخيمات، حروب متتابعة عجّلت في التجاعيد على الوجوه، تعب وإنهاك لتحصيل لقمة العيش، ولتعليم البقية الباقية من الدنيا: الأولاد. سنون قضاها فلسطينيّو سوريا فدائيين في لبنان، كان الجرح واحداً، إذا تداعى له ألم في البرج تداعت له سائر المخيمات بالسهر والحمى، كانت الخيمة واحدة كما الجرح، كما وجهة البندقية، كما الهدف.
«الأسى ما بينتسى» جملة لا تفارق لسان حال الفلسطينيين أينما كانوا، لكن كما يقال «غزّ الإبر مش زي ضرب السيوف»، وألم مخيمات لبنان لا يضاهيه ألم. الغرباء في المنفى، المشردون في «الزواريب» لم تشفع لهم سنونهم الثلاث والستون بعد النكبة في أن ينالوا قسطاً من الراحة، تراهم يتّكئون على جراحهم القديمة، ويدارون جراحاً مزمنة في القلب. خيمة عن خيمة بتفرق، لكن في سياق ليس كنفانياً، الخيم في سوريا إلى حد بعيد خيم مشتركة للسوريين وضيوفهم الفلسطينيين، يعيشون حالاً واحدة، في الحرب والسلم، كما لو كانوا أهل الأرض جميعاً، لا حدود تفصل بين المخيمات في سوريا ومحيطها، الحدود وهمية، وضعتها الخصوصية الفلسطينية، لكنها لا تلبث تنهار عند كل منعطف في حياة الأشقاء السوريين، شاء من شاء وأبى من أبى. لا فرق بين فلسطيني وسوري إلا في حجم الألم .
في بيروت اليوم ليل المخيمات طويل، تقضيه العيون في انتظار النهار، بيروت، تنام بهدوء ليلاً، ومشفى غزة في صبرا رغم ارتفاعه الشاهق، يبدو كزيتونة ليست بشرقية ولا هي غربية، لا يراها النائمون حولها، ولا يوقظ صوت آلام ساكنيها نائماً.
في لبنان سترى حول المخيمات أسواراً وربما أسلاكاً شائكة فوق الأسوار لتشديد الفصل بين من هم داخل الأسوار ومن هم خارجها، ليصير من في الداخل آخر، والخارج بالنسبة إلى الداخل آخَرَ آخَر، في لبنان كسر التمييز بين اللبناني والفلسطيني وهم.
من لفلسطينيي لبنان؟ لماذا سنظل في دائرة لوم الحكومات اللبنانية المتعاقبة، ما الذي صنعه قائد فلسطين لرعيته؟ ما الذي أضافته المنظمات الدولية، ومنها الأونروا، إذا كان الطفل غير قادر على الوصول إلى مدرسته، لأن والده لا يمتلك أجرة الطريق إلى المدرسة؟ لأن والده ممنوع من العمل في ما يحفظ الكرامة الإنسانية، بل وفي أدنى حدودها؟ الأبرز في هذه المعادلة هو الغائب فيها: منظمة التحرير، الفصائل الفلسطينية، القيادات الفلسطينية قاطبة.
تساءلت عندما رأيت المخيمات في لبنان السؤال الرحباني: « يا أينك؟»، لكنني لم أحتج إلى وقت طويل لأعلم أن هذا السؤال ملّ الناس هنا من طرحه، منذ سطّرت منظمة التحرير سفر الخروج من بيروت، سابحة في المتوسط إلى فلسطين، تاركة خلفها من أوصت بهم خيراً، ولمّا يأت الخير بعد.
عودة إلى سياقك الكنفاني غسان «خيمة عن خيمة بتفرق »، ودعوانا اليوم أن اللهم أعطنا ملحنا كفاف جروحنا، فقد احترفنا الألم.