تونس | قبل أكثر من عام، كان الحديث عن منطقة سيدي بوزيد يقود إلى الحديث عن البؤس والفقر والحرمان. شبابها احترفوا الجلوس مع جدران المدينة، وآخرون خيّروا بين النزوح نحو المناطق الساحلية «حيث تكمن فرص الثروة»، أو الالتواء على «قانون بن علي العرفي» وفرش البسطات عشوائياً في السوق، سعياً وراء لقمة العيش التي لم تستطع أن تكفلها الدولة، رغم المستوى التعليم العالي الذي وصل إليه بعض الشباب.
كانت تلك حال محمد البوعزيزي الذي انفجرت قرائحه من الظلم والاستبداد، فكان أن أحرق نفسه، ليكون شعلة لثورة، هزت عروش الحكام العرب، بدايةً من الهارب زين العابدين بن علي المخلوع، إلى حسني مبارك المسجون وإلى «نيرون» المجنون. وفي ذكرى مرور عام على اندلاع الثورة ونجاحها، كان لا بد لسيدي بوزيد أن تتحول من جديد إلى محط الأنظار، حيث شهدت الاحتفالات بذكرى ثورة الكرامة، وإن لم يكن البرنامج الاحتفالي على مستوى الحدث الكبير الذي هز العالم، وجعل أعتى أجهزة الاستخبارات وأقوى الدول تقف حائرة أمام «التسونامي» الجماهيري العربي، فكانت ثورة الكرامة ثورة 14 يناير، و25 يناير في مصر، و17 فبراير في ليبيا، وثورة آذار في سوريا، وثورة اليمن السعيد في بلد لم يعرف السعادة.
إذاً، وقفت سيدي بوزيد أول من أمس شامخة بما قدمه شبابها، الذين افتخروا لأول مرة بالكرامة، أمام زعمائها الجدد، الذين أتوا من السجن والمنفى ليعتلوا السلطة التأسيسية. فعمت الفرحة ومظاهرها سيدي بوزيد. رفعت الإعلام وزينت الساحات وغصّت الساحات بآلاف الشبان والنساء والرجال، الذين رقصوا على إيقاع نغمات «المزود» و«الزكرة» الشعبية، ليزاح بعد ذلك الستار عن مجسم كبير ارتفاعه قرابة عشرة أمتار للشاب البوعزيزي الذي أصبح ينظر إليه على أنه بطل قومي.
وبعد ذلك، كشف الستار على مجسم ثان يجسد عربة للخضر وكراسي، في إشارة إلى أن عربة بائع الخضر أطاحت بعض الحكام من كراسيهم التي جلسوا عليها لعقود، في صورة على التغييرات الجوهرية التي هزت وقلبت الشرق الأوسط رأساً على عقب.
إلا أن عربة البوعزيزي، لم تكن أهم من قبره، الذي تحول إلى مقام ومزار لعدد من سكان المحافظة، بوصفه رمزاً للثورة. فأصبح «ملهماً» للبعض، وبطلاً للبعض الآخر، ولسان حالهم يقول «محمد البوعزيزي أحرق نفسه لتعيش تونس حرة. لقد أصبح بطلاً يمثل الجهة، وتذكاراً على نهاية الطغيان».
وأبى التونسيون أن يحتفلوا بالذكرى الأولى للثورة منفردين. فعلى الرغم من هذا الجدال السياسي بين الشعب والثورة الجديدة، إلا أن الفئات الاجتماعية في المنطقة اختارت توجهاً آخر للتعبير، كان قاسمه الأكبر فعاليات ملحمية توزعت بين المسرح والشعر والموسيقى بمضامين فنية ومعرفية، كانت حاضرة لتؤثث الذكرى بسواعد تونسية وعربية آثرت على نفسها المشاركة في هذه الذكرى الأولى لثورة الكرامة، ثورة البوعزيزي والشباب، لا ثورة السلطة والشيوخ. فكان حضور العديد من الشعراء العرب الذين أحيوا أمسيات شعرية، بينهم الفلسطيني تميم البرغوتي والمصريان أحمد فؤاد نجم وهشام الجخ والليبية عائشة إدريس واليمني عبد المجيد التركي والعراقي عبد المنعم الأمير.
ولعل أهم ما جاء في هذا اليوم الكبير في سيدي بوزيد، الاحتفاء بالشهداء أكثر من الزعماء، ذلك الاحتفاء الذي كان الجيش الوطني قد أعلنه بإطلاق 17 طلقة، في إشارة رمزية إلى ذكرى 17 كانون الأول، التي كان أبطالها حاضرين في النفوس، رغم أنها غيّبت بالموت.
وبينما كانت ذكرى الشهداء محل إشادة من المتراصين في الساحة والمقبرة، أتت السلطة الجديدة فوق المنصة لـ«تعد بمستقبل أفضل وأكثر إشراقاً»، حسب خطاب الرئيس المؤقت الجديد، المنصف المرزوقي.
فأمام فعاليات المهرجان الذي حضره نشطاء سياسيون وممثلون عن المجتمع المدني ونقابيون، قال المرزوقي «أتيت اليوم لأقول لكم شكراً لأن هذه الأرض أرض سيدي بوزيد والمناطق المجاورة عانت لعقود طويلة من الاحتقار، لكنها أرجعت الكرامة لتونس ولشعبها ... شكراً لأنكم كنتم الشرارة التي أشعلت الثورة وتحدّت الحدود». وأضاف «هذا شكر معنوي، لكن أيضاً علينا إعادة الاعتبار لهذه المنطقة المهمّشة ودورنا كمؤسسات إعادة فرحة الحياة التي سرقها منكم الطاغية»، في إشارة الى فترة حكم بن علي، مضيفاً «نريد أن تلتحقوا بركب المناطق الأخرى والنهوض بالبنية التحتية. سنحقق ذلك بإذن الله، ومن هنا إلى سنة سنتقابل من أجل تقويم وعودنا وأعمالنا». وهو خطاب ردّ عليه الجميع بالتصفيق، قبل أن تعلو الهتافات المطالبة بالكرامة من جديد، فـ«لا وعود بعد الآن. نريد أفعالاً»، حسب قول الشاب محمد الجلاصي، الذي أضاف لـ«الأخبار» «نوجه رسالة مفتوحة للمرزوقي والنهضة ومن لف لفّهما ... لن نتوانى عن إشعال ثورة أخرى إذا لم تحقق الوعود. عليكم بالنهوض بالجهة والجهات المنكوبة الأخرى ... وإلا».
وقال شاب اسمه عماد، وهو يرقص على إيقاع أغان شعبية، «إنه يوم الفرح. سيدي بوزيد عانت طويلاً من اللامبالاة والنسيان ... واليوم سيدي بوزيد عاصمة العالم ومحط أنظاره ... هذا مصدر فخر لنا. اليوم العالم كله عدل ساعته على سيدي بوزيد». وقالت فتاة حاصلة على شهادة جامعية، اسمها نبيلة عبيدي، «جميل أن يتم تكريم سيدي بوزيد باحتفالات ضخمة مثل هذه، لكن نحتاج الى أن نعمل. العمل وحده يعيد لنا الكرامة. الجائع يحتاج الى الخبز، لا الى آلة موسيقية يسلّي بها نفسه».
بدوره، يقول الشاب أحمد «ثورة الشباب في تونس، والتي أتت بشيوخ على رأس السلطة السياسية، تتطلع اليوم إلى المستقبل. السلطة السياسية أصبحت من نصيبكم كما كنتم تريدون. فأرونا ما أنتم فاعلون»، في رسائل واضحة إلى السلطة الجديدة، ورسم للخطوط الحمراء أمامها بأن التونسيين لن يحيدوا عن الديموقراطية أو الكرامة أو ما حققته الثورة، ولن يزايدوا على دماء الشهداء.
وهي كلمات يبدو أن المرزوقي سمعها جيداً، وأحسّ بوقعها حتى قبل الذهاب إلى سيدي بوزيد، حيث كشف قبل يوم من الذكرى، أنه لا يريد أن «يحدث له ما حدث لسابقيه الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي»، معرباً في مقابلة مع قناة «فرانس 24» عن أمله في ألا يعرف المصير نفسه، بقوله «دخلت القصر الرئاسي بإرادة الشعب، وسأخرج بإرادتي»، مقراً بالدور السلي الذي قام به بن علي، ومن قبله الحبيب بورقيبة في تاريخ تونس، ما أوصل إلى لحظة الانفجار الكبرى في العام الماضي.
وفي مقابلة أخرى مع وسيلة إعلام فرنسية، صرح الرئيس التونسي الجديد بأن الفرنسيين «سجناء أفكار مسبقة حيال الإسلام»، وهم «في أغلب الأحوال الأقل فهماً للعالم العربي»، معتبراً أن المخاوف الغربية حيال إسلاميي حزب النهضة غير ذات معنى. وقال لصحيفة «جورنال دو ديمانش» «لم أستسغ التصريحات الثقافية التمييزية، لئلا أقول عنصرية، التي صدرت عن البعض في باريس، من بينهم وزير الخارجية السابق هوبير فدرين، الذي تساءل إن كان على الغرب تصدير ديموقراطيته. وكأن الديموقراطية خاصة بالدول الغربية». وأضاف «روحية الاستعمار انتهت. إن ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 منحتنا الديموقراطية والجمهورية، وأخيراً الاستقلال». ورأى أن «المخاوف حيال النهضة عبثية». وقال «إن مجتمعنا يشمل حيزاً محافظاً وحيزاً عصرياً. والتعبير السياسي للمحافظة هو الإسلام. لديكم أحزاب ديموقراطية ـــــ مسيحية في أوروبا، ولدينا حزب ديموقراطي إسلامي».