تسارعت التطورات خلال الساعات الماضية في العراق، وبلغ التوتر السياسي والاجتماعي ذروته، بما ينذر بأعلى درجات الخطورة. وزارة الداخلية أعلنت أنها ستعرض اعترافات عدد من أفراد حماية نائب الرئيس، القيادي في «القائمة العراقية»، طارق الهاشمي، المتّهمين بتدبير محاولة تفجير البرلمان في 28 تشرين الثاني الماضي. إعلان آخر يصدر عن الوزارة بعد ساعات من تأجيل عرض المتهمين، استجابةً لطلب مجلس القضاء الأعلى، فيؤلف المجلس لجنةً للتحقيق في اعترافات المتهمين المذكورين. أخبار وشائعات متواترة عن صدور مذكرة اعتقال بحق الهاشمي، وأنباء أخرى عن سفره إلى السليمانية، مقر إقامة رئيسه جلال الطالباني، ما لبث مكتبه أن نفاها، وأعلن أنه لا يزال في بغداد. في موازاة ذلك، يعلن نائب عن كتلة نوري المالكي، «دولة القانون»، في نبأ عاجل، طلباً تقدم به المالكي لسحب الثقة من نائبه لشؤون الخدمات، صالح المطلك، بعد اتهامات علنية حادة لهذا الأخير، وصف فيها المالكي بأنه «أكبر دكتاتور في تاريخ العراق، حتى أكثر من صدام حسين، ويقود البلد إلى حرب أهلية». هو المطلك نفسه الذي كان ممنوعاً من المشاركة في الانتخابات بسبب شموله بقانون «المساءلة والعدالة»، المتعلق بحظر عمل المرتبطين بحزب البعث المنحل، قبل أن تُبرَم صفقة سياسية لتسهيل عملية تأليف الحكومة، سمحت له بتسلم منصبه الرسمي.
موقف المطلك هذا جاء مصحوباً بانقلاب جذري في مواقفه من موضوع «الأقلمة»، أي شرعنة تحويل بعض المحافظات العراقية إلى أقاليم؛ فقد ساد الاعتقاد بأنّ المطلك وزميله إياد علاوي هما الزعيمان الوحيدان في «العراقية» اللذان يرفضان تحويل المحافظات ذات الغالبية العربية السنية إلى أقاليم، ربما يجري جمعها في إقليم واحد لاحقاً، لكن المطلك وجّه خطاباً حماسياً قبل يوم واحد من هذه التطورات إلى أهالي محافظة ديالى، يؤيد فيه مسعاهم إلى التحول إلى إقليم. على هذا الصعيد، نقرأ في التفاصيل أنّ غالبية تألّفت على نحو غامض في المجلس المحلي لمحافظة ديالى المختلطة مذهبياً وإثنياً، نجحت في انتزاع قرار بتحويل المحافظة إلى إقليم. في المقابل، جرت تظاهرات رفض واسعة انطلقت في أكثر من بلدة وقرية، يمثل الشيعة غالبية سكانها في المحافظة. أما الأكراد، فلم يشاركوا بعدما تسلّموا تعهداً خطياً من دُعاة الإقليم، يتنازلون لهم فيه عن قضاء خانقين ذي الغالبية الكردية، بحسب مصادر تحالف المالكي. بعد ذلك، حذّر محافظ ديالى عبد الناصر المهداوي من انتشار ميليشيات طائفية بدأت بممارسة أعمال قطع طرق وقتل مدنيين، ليطالب بتدخل الجيش وتطهير أجهزة الأمن من «المندسّين» على حد وصفه. هذه التطورات المحمومة والمتلاحقة لم تترك للمراقبين فرصة لالتقاط السياق العام الذي يربط في ما بينها، ولا لفهم لماذا تزامنت في وقت واحد وبعد يوم واحد من إنزال علم الاحتلال إيذاناً بإتمام عملية انسحاب القوات المحتلة؟
وفي حيثيات التطورات، أعلن مسؤول أمني عراقي «رفيع المستوى» أن مجلس القضاء الأعلى يحقق في ملفات عشرة من عناصر حراسة الهاشمي، اعتُقلوا خلال الأسبوعين الماضيين للتورط في ارتكاب «عمليات إرهابية، بينها تفجير مبنى البرلمان في 28 تشرين الثاني الماضي، ويعود قسم من هذه الجرائم إلى عام 2006»، بموازاة حديث مصادر صحافية، كجريدة «المدى» عن صدور مذكرة اعتقال بحق الهاشمي نفسه، وعدد من أعضاء حمايته، لكن لم تؤكد مصادر رسمية هذا النبأ. ورداً على هذه الإجراءات، اجتمعت «العراقية» بغياب زعيمها علاوي في منزل الهاشمي ليلاً، وقررت تعليق مشاركتها البرلمانية اعتراضاً على الملاحقات بحق الهاشمي والمطلك، مهدِّدةً بالتصعيد ومقاطعة العملية السياسية برمتها، من برلمان وحكومة، لكن المبررات والحجج التي سيقَت لتبرير هذا القرار لم تخرج عن المألوف، وأغلبها قديم ومكرَّر، من نوع اتهام المالكي وتحالفه بنقض الاتفاقات السابقة، وممارسة الإقصاء والتهميش والقمع الواسع ذي الخلفية الطائفية، لكن ذلك لا يشرح ما الذي حدث بالتحديد، وما إذا كان ذلك مرتبطاً باتهامات المالكي الموجّهة إلى عناصر حماية الهاشمي بالتورط في أعمال «إرهابية»؟ ولماذا هذا الاستعجال من قبل وزارة الداخلية التي يقودها المالكي بالوكالة للتحقيق، ومحاولة إعلان نتائجه، فيما ترقد عشرات الملفات المشابهة في الرفوف، وخصوصاً أنّ المالكي والتحالف الذي يحكم باسمه، كما يرى معظم المحللين، أحوج من جميع الأطراف الأخرى إلى الهدوء والتناغم لإنجاز ملف انسحاب قوات الاحتلال، وعبور هذه المرحلة الشديدة الحساسية. فلماذا يمنح خصومه فرصة التصعيد؟ يسأل الوسط العراقي.
وفي رحلة البحث عن أجوبة منطقية لتزامن هذه التطوّرات، يرى عدد كبير من المحلِّلين والمراقبين أنّ من غير الصعب تماماً تصديق أنّ أصابع الاحتلال الأميركي بعيدة وبريئة مما يحدث الآن؛ فقد جاءت قصة محاولة تفجير البرلمان المفككة والمتناقضة في ذروة عملية انسحاب قوات الاحتلال. ورغم كل التفاصيل التي قيلَت عن الموضوع، وشريط الفيديو التي سجّلته كاميرات المراقبة، والاعترافات المزعومة لأفراد من حماية نائب الرئيس الهاشمي، ظلت هذه القصة أقرب إلى المادة الخام غير القابلة للانسجام والاستخدام بهدف إنتاج خلاصة يمكن تصديقها. على سبيل المثال، يسأل مراقبون، لماذا أراد الهاشمي أن يغتال المالكي إن صحت ادعاءات الأخير بأنه كان المستهدف في التفجير المذكور؟ وإذا كان المستهدف هو رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي، على حد زعم هذا الأخير، فهل يعقل أن يقوم الهاشمي باغتيال زميل له في التحالف السياسي الذي يجمعهما، أي كتلة «العراقية»؟ أم أن المستهدف هو شخص آخر لم يكشف عنه بعد؟ من الجهة المقابلة، يروّج أنصار «العراقية» لاتهام آخر، يفيد بأن الحكومة وحزب المالكي وأجهزته الأمنية دبّروا محاولة التفجير. وهنا أيضاً يُطرَح السؤال: هل يعقل أن يفجر المالكي الوضع العام، وهو بأمس الحاجة اليوم إلى التهدئة، وإلى وجود جميع الشركاء السياسيين معه في الزورق عشية الانسحاب الأميركي؟
هنا، يرى كُثُر، بينهم الكاتب العراقي صائب خليل، أن هناك رائحة أميركية قوية في كل ما حدث وسوف يحدث. ويشير خليل إلى أن محاولة تفجير البرلمان دبرتها الاستخبارات الأميركية، كي تعطي الانطباع للعرب السنّة بأنهم مستهدفون باغتيال النجيفي من جهة، وتعطي انطباعاً مشابهاً للعرب الشيعة بأنهم مستهدفون باغتيال المالكي من جهة أخرى، وذلك ليتمكن الأميركيون من العودة من الشبّاك بعدما «طُردوا» من الباب. حتى إن البعض يرى أن الاحتلال، ربما استهدف من خلال إشاعة هذه الأجواء، وضع العراق تحت الوصاية الدولية إنْ وجد أنّ ثمن عودته سيكون فادحاً.