يبدو واضحاً أنّ الكيفية التي خُتِمَتْ بها «مسرحية» انسحاب قوات الاحتلال من العراق، أحرجت فريقين تحديداً، وكشفت خطأ المنطق الذي تبنّياه طوال السنوات القليلة الماضية. فالفريق الأول، الذي يضم بعض الجهات المناهضة والمقاومة للاحتلال، كان مصرّاً على أنّ المحتلين لن ينسحبوا من العراق أبداً. هذا الفريق شاهد بالعينين المجردتين قوات الاحتلال وهي تنسحب ومعها معداتها الثقيلة وأسلحتها. وبغض النظر عما قيل عن تجمعها في الكويت أو في قواعد سرية في بلدان مجاورة أخرى كالأردن، فإن انسحاباً عسكرياً حقيقياً قد حدث على الأرض، وأثبت بطلان منطق هذا الفريق. الفشل كان أيضاً من نصيب الفريق الثاني، الذي يضم أطرافاً في حكم المحاصصة الطائفية، ويتبنّى منطقاً يقول إنّ الانسحاب حصل في موعده المحدَّد، ونتجت منه استعادة السيادة الوطنية كاملة ومعها الاستقلال الناجز.
لقد فشل هذا الفريق بدوره في إقناع الجمهور العراقي وغير العراقي بصحة منطقه، فالاحتلال ـــــ وإنْ سحب الجزء الأكبر من قواته العسكرية ـــــ لا يزال ممسِكاً بالبلد سياسياً واقتصادياً وأمنياً بموجب اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» واتفاقات سرية أخرى متفرِّعة عنها أو متساوقة معها، وهو لا يزال يحتفظ بسفارة عملاقة هي الأكبر في العالم تعتقد بعض المصادر أن الوجود العسكري الأميركي فيها لن يكون محدَّداً بالـ 15 ألفاً الذين أعلن عنهم الأميركيون أنفسهم، بل قد يتجاوز ذلك إلى عشرات الآلاف، إضافة إلى قواعد عسكرية سرية كشف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر عن وجود إحداها في قرية «سيبران سرو» الكردية شمالي أربيل. إضافة إلى ذلك، ترك الاحتلال البلد مكشوفاً ومباحاً عسكرياً، تحديداً جوياً وبحرياً، وإلى حد ما برياً حتى، وعلى حافة اقتتال مذهبي وطائفي وقومي. لقد ترك بلداً غير قادر على إطعام سكانه إلا بواسطة الاستيراد وشراء الطعام بالمال النفطي لملايين العراقيين ضمن برنامج «البطاقة التموينية المجانية» وشهراً بشهر. إنّ الموقف الأقرب إلى الواقع من هذا الانسحاب، هو ذلك الذي يؤمن به فريق ثالث في المشهد السياسي العراقي، والقائل بأن انسحاباً عسكرياً فعلياً قد حدث، لكنْ لم تنتج منه استعادة حقيقية للسيادة والاستقلال الوطني العراقيين، وأن المهمة العاجلة الآن لدرء تجدُّد الحرب الأهلية الطائفية هي بيد العراقيين أنفسهم. منطق يشير إلى أنّ الأميركيين لم ولن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل إنهم سيحاولون إشعالها من وراء الستار. وإذا كان انسحاب قوات الاحتلال غير التام قد حلَّ، أو سهَّلَ الوصول إلى حلول لبعض المشاكل القائمة والموروثة، فإنه أوجد أيضاً العديد من المشاكل الجديدة. بهذا الخصوص، يرى بعض المحلِّلين أنّ انسحاب الاحتلال عسكرياً، سحب الغطاء السياسي والشرعي من المقاومة المسلَّحة التي كانت تستهدفه، وهذا ما يسهِّل منطقياً إطلاق عملية مصالحة سياسية واجتماعية عميقة وحقيقية، بعيداً عن عمليات المصالحة الخطابية والتلفزيونية التي يشرف عليها مسؤولون حكوميون فاشلون. لكن العوامل الداخلية العراقية، وفي مقدمتها تمسك كل طرف من أطراف اللعبة بمطالبه وشعاراته، هي ما يمنع اغتنام وتفعيل هذه الواقعة الفريدة وغير القابلة للتكرار. يردّ البعض على هذا الرأي بالقول إنّ المقاومة العراقية، رغم بلائها الحسن في السنوات الأولى للاحتلال، أمست ذات حضور رمزي اليوم، ولعل الفاعلية الأهم التي قام بها أنصارها خلال آخر أيام انسحاب الاحتلال، هو الاحتفال الكبير الذي نظموه في مدينة الفلوجة حيث شارك الآلاف من العراقيين من أبناء المحافظات الجنوبية، في سابقة لها دلالاتها الجديدة والواعدة. أما المصالحة المرجوة، فلا يمكن التفاؤل بتحقيقها بوجود حكم قائم على المحاصصة الطائفية. أما السبب، فهو أنّ هذه الأخيرة تعني غياب الاندماج المجتمعي، وتعني أيضاً سعي كل طرف طائفي أو إثني لحماية منجزاته ومصالحه الفئوية والحصول على مكتسبات جديدة على حساب الطرف المقابل. لذلك، فإن المصالحة الحقيقية لن يكون لها وجود في ظل حكم المحاصصة، وبوجود الدستور الذي يقوم عليه هذا الحكم. إنها قصة إبريق الزيت ذاتها، لكن بمفردات أخرى، فهل يمكن الخروج من الدوّامة التي نجح الاحتلال في رسمها وإدخال الأطراف العراقية المتشاركة في الحكم إلى مسار المصالحة اليوم؟
يجد العديد من المحللين في الرأي السالف سنداً لفهمهم حقيقة التقلب والسيولة والتناقض التي يتميز بها المشهد السياسي العراقي اليوم؛ ففي السنة الأخيرة من عمر الاحتلال، انقلبت مواقف أهم الأطراف ممن تدّعي التعبير عن مصالح الفئات الطائفية المتنافسة. في هذا الانقلاب، كما يعتقد بعض المراقبين، دلالات انقلاب أعمق حدث على المستوى الاستراتيجي والسياسي في العراق ككل. وفي الأمثلة والتفاصيل سنلاحظ كيف كان زاعمو تمثيل طائفة المسلمين الشيعة مؤيدين لبقاء وجود قوات الاحتلال لأطول فترة ممكنة في سنوات الاحتلال الأولى، فيما كان زاعمو تمثيل طائفة العرب السنة ـــــ مع أنهم يحرصون دائماً على أن يقدّموا أنفسهم في الخطاب الإعلامي كممثّلين للشعب العراقي ككل ـــــ يرفضون بقاء الاحتلال، ويطالبون بخروجه بأسرع ما يمكن، وقد أصبح شعاراً بالحد الأدنى لبعضهم، هو المطالبة بجدولة انسحاب قوات الاحتلال في أمد زمني منظور.
الطرف الثالث، أي الزعامات التقليدية الكردية، كانت ولا تزال مع بقاء قوات الاحتلال لأطول أمد ممكن، وإلا فعلى الأقل بقاء جزء منها في الإقليم الذي يحكمونه مباشرة وباستقلال تام عن المركز الاتحادي. الانقلاب الذي طرأ لم يعدِّل الموقف الكردي أو يغيِّره، وهو الذي بدا مضطراً إلى التكيف مع الظروف الجديدة التي جعلت الغلبة للمصرّين على انسحاب قوات الاحتلال. ولكن هؤلاء المصرّين لم يعودوا ممثَّلين بالزعامات السياسية من العرب السنة، بل من أبناء عمومتهم العرب الشيعة.
لقد كان المراقبون للمشهد العراقي مأخوذين بهذا الانقلاب الجذري وبالتطورات العميقة في المواقف والرؤى، وبعضهم رأى فيها تحولاً في مواقف دول إقليمية لها تأثيرها على الوضع العراقي، وخصوصاً إيران المستهدفة غربياً، والسعودية المحاصَرة بحرائق الربيع العربي. في المقابل، مال فريق ثالث من المحلِّلين إلى أخذ العامل الداخلي العراقي على اعتبار أنه المعيار الأوّل، وعلّل تلك التغيرات بأمرين مهمّين:
الأول هو تلاشي أوهام وآمال الأطراف الطائفية من العرب السنّة التي كانت تعوِّل على العودة إلى الحكم من طريق الانتخابات أو الانقلاب العسكري أو نتيجةً لانهيار حكم الخصم الطائفي «العربي الشيعي» ذاتياً، وعدم قدرة هذه الأطراف ـــــ التي تزعم تمثيل العرب السنّة ـــــ على استيعاب حقيقة هذا التحوُّل الكبير في موازين القوى على الأرض، وهذا العامل تحديداً هو ما يحكم آفاق ما بعد انسحاب الاحتلال؛ فنحن بإزاء احتمال استمرار رفض الاندماج المجتمعي لأنه يعني من وجهة نظر الطائفيين الخضوع للأغلبية الطائفية الحاكمة، والاعتراف النهائي بالهزيمة، وبالتالي الدفاع عن أوهام العودة إلى الحكم باسم الشعب شكلاً، وباسم الطائفة واقعاً.
الأمر الثاني، وهو من الطينة المجتمعية والسياسية ذاتها، ولكنه يتعلق بالجهة المقابلة طائفياً (الشيعة) من حيث الشكل على الأقل، وهو ترسُّخ التوجه الطائفي السياسي لدى الأطراف الطائفية من الإسلاميين الشيعة. هنا أيضاً، كما يسجِّل محللون ومتخصصون في الشأن العراقي، ترسّخت أوهام طائفية خطيرة، منها إمكان الانفراد بالحكم والثروات أو جلّها، مع ترك بعض الفتات للخصم واستمرار أجواء الاستقطاب الطائفي الحاد مع ما يصاحبه من توغُّل إيران والسعودية وأطراف إقليمية أخرى في الشأن العراقي، وما ينتج من هذا الاستقطاب الطائفي من تهميش وإقصاء لا يستهدف رسمياً أي طائفة، ولكنه عملياً يمكن أن يكون كذلك. لكن ما الذي ساعد ويساعد على استمرار تحكم هذه الثنائية من الأوهام والشعارات الطائفية «الشيعية والسنية» المغلفة بالمفردات الوطنية اللفظية والممزِّقة للنسيج المجتمعي والدافعة بالعراق نحو كارثة الاقتتال الأهلي والحرب الأهلية
المفتوحة؟



الهاشمي مطلوب للعدالة


اتخذت الأزمة المستجدّة في العراق منحى أكثر خطورة، أمس، بعدما أصدر القضاء العراقي مذكرة اعتقال بحق نائب الرئيس طارق الهاشمي (الصورة) على خلفية «قضايا تتعلق بالإرهاب»، بينها التخطيط لمحاولة تفجير مبنى البرلمان في 28 تشرين الثاني الماضي، وذلك بعد ساعات من صدور قرار بمنعه من مغادرة البلاد. وكانت السلطات العراقية قد أرغمت الهاشمي، مساء أول من أمس، على مغادرة طائرته بسبب وجود مذكرات توقيف بحق عدد من حراسه الشخصيين، قبل أن يُوقَف بعضهم ويسمح للهاشمي بالسفر إلى السليمانية، بعد تدخل من الرئيس جلال الطالباني. وردّ الهاشمي على قرار المنع بالتحذير من أنه مستعد «للتذرع بأقصى درجات الصبر وانتظار سلوك عقلاني من الحكومة»، كما حمّل «الجهة التي تدفع باتجاه التصعيد» كامل المسؤوليّة.
(أ ف ب، يو بي آي، رويترز)