هل ستُحرق القاهرة؟ الضابط الكبير اعتذر عن عدم استكمال الرد على الأسئلة الصحافية ليقرأ الورقة التي وصلته للتو. وقبل أن يقول ما في الورقة، تجهّمت ملامحه وأعلنها: «لقد اكتشفنا الآن مخططاً لحرق مجلس الشعب». كان من المنتظر تصفيق حاد وهتاف بحياة المجلس العسكري حامي مصر. لكن الدهشة عقدت الألسن. هل لا يزال في السيناريو بقية؟ تصورت جوقة الصحافيين التابعين لهيئة الاستعلامات أنه الفصل الأخير، ولن يضطروا إلى الاستدعاء مرة أخرى لسماع روايات لا يسمعها أحد إلّا من قبيل الإثارة أو استشراف ما يحدث في الغرف المغلقة.

المجلس أعلن الحرب على الثوار. اتهمهم بالتخطيط لتخريب مصر. حدد مواقع المؤامرة وأخرج كل أدواته المتوارثة من أيام القلم السياسي. اعترافات مصوّرة بالمخطط وأماكنه، وثوار فوضويون يريدون هدم الدولة... واجتهاد في رسم صورة نمطية للفوضوي الطويل اللحية، وضفيرة شعر مع التوابل والبهارات. الأخلاقية المعتادة: حشيش وخمر ونساء.
العقلية نفسها التي أحرقت القاهرة في ١٩٥٢ وكادت أن تحرقها في ١٩٧٧، لتقول إن الخروج عنها عمل إرهابي هدفه التخريب، ولا حل إلّا بالالتحام بين الشعب وسلطته. هي العقلية نفسها، لكنها تتعامل هذه المرة مع صنف من الثوار لم تشهده مصر من قبل، وهذا ربما هو سر «تهلهل» الرواية رغم وجود جمهور كبير مؤهل لاستخدامها. المؤتمر جاء في أعقاب جوقة منظمة تتحدث عن الفوضى والتخريب، يشترك في هذه الجوقة حزب سلفي، وكتائب التضليل في ماسبيرو، وإعلاميون في قنوات يغازلون الأسياد الجدد بعد سقوط الأسياد القدامى.
لا أحد يفكر خارج رواية السلطة (التي لا يصدقها عقل يعيش في زمن ما قبل السياسة والثورات)، رغم اكتشاف كذبها عدة مرات من العباسية إلى ماسبيرو، إن لم يكن من أيام موقعة الجمل. الجوقة تتحدث عن الفوضى وتنسى السؤال: من يصنع الفوضى؟
من صنعها أيها الواقفون في المؤتمرات الصحافية والجالسون على مقاعد التوك شو؟ يتحدث اللواء عمارة ويقول: إذا سقطت وزارة الداخلية فسيكتمل مسلسل تخريب مصر. ماذا يقصد؟ هل يقصد أن الثورة كانت بداية المسلسل؟ أم الثوار يريدون سقوط وزارة الداخلية؟ لماذا؟ هذه الثورة أنقذت مصر من براثن الدولة الأمنية التي حمت عصابة الفساد وخرّبت كل ما هو صلب وحيّ في مصر. الدولة الأمنية خرّبت مصر وتريد استمرار تخريبها. جرفت ثروتها وكسرت روح شعبها ونشرت الانحطاط ودفعت كل من لا يستحق ليتحكّم في كل صاحب قيمة.
يتحدث اللواء والمجلس كله بفخر عن عقيدة حماية الدولة، وينسى أن يقول أيّ دولة. الدولة التي تقتل وتسحل وتدوس الأجساد بالمدرعات والكرامة بكل ما تمتلك من ميليشيات غشيمة لا بد أن تسقط. الدولة التي لا تستطيع محاسبة القاتل فيها ليست دولة. الدولة التي تقتل متظاهرين سلميين ليست دولة. الدولة التي تُسحل فيها النساء وتُعرّى أجسادهن في الشارع ليست دولة. الدولة التي يحرّض إعلامها على حرب طائفية ليست دولة. الدولة التي تتردد في محاكمة عصابة أفسدتها وسرقتها وتحميها في منتجعات طرة والمركز الطبي ليست دولة. هذه ليست دولة. إنها مافيا تحكمها شبكات سرية. إذا أراد اللواء عمارة أن يعرف من يخطط لحرق مصر، فليسأل ضباط المباحث الذين يجمعون البلطجية من عابدين والسيدة زينب. وليسأل من يريد حرق القاهرة على طريقة نظام الملك فاروق في ١٩٥٢ مشركاً معه كل عناصر الفاشية والاحتلال؟ ليسأل اللواء من حرق المجمع العلمي بقنبلة مولوتوف سقطت من أعلى حيث تقف ميليشيات الهيبة التي تتبوّل على المتظاهرين وتشير إليهم بالإصبع الوسطى؟ الهتاف قبل أيام هزّ «الأزهر» في جنازة الشيخ عماد عفت: يسقط حكم العسكر. الكنيسة اهتزّت من قبل تحت الهتاف نفسه، وفي جنازة شهداء ماسبيرو. الشوارع كلها تهتف: لا نريد جمهورية عسكرية... لا جنرال يحكمنا ولا يحمينا... ولا جنرال يرتدي ملابس مدنية... ولا جنرال يحكم بصفقة مع التيار الغالب في البرلمان. لا نريد العسكر. لا نريد الدولة الأمنية. الدولة الأمنية «مصمصت» الأرواح، وأدخلت الجميع في دوامة كذب لانهائي. تقتنص حق التسميات فتسمّي الثوار مخرّبين كما سمّى السادات الانتفاضة الشعبية انتفاضة الحرامية، وكما سمّى مبارك معارضيه القلة المندسة.
هم يختزلون البلد كله في مفهوم «الثكنة». يتوحد الجنرال مع بزته ويتصور نفسه في معركة مع الجميع لتظل بيادته (أحذيته) تدبّ في الأرض. لا يريد أن يسمع سوى دبيبها، صوتها المقزز المرعب، وهي تدوس كل ما تبنيه البشرية. يشاهدون القتل ويحاكمون القتيل. يرون الحقيقة مصورة وينكرون أنهم صنّاع المشهد.
مصر كلها تهتف لا نريد الدولة الأمنية التي لا ترى إلّا نفسها ولا تعيش إلّا على جثث الشعب وكرامته المهدورة. الجنرال الحنون زار أمس الفتاة التي سحلها وعُرّي جسدها... زارها بابتسامة أب وحنان دولة كاملة. الجريحة طردته من حجرتها. أنهت تمثيلية تعيشها مصر من ٦٠ سنة مع الفاشية الحنونة. تقتل وتسير في جنازة قتيلها، تجرح وتعالج ضحيتها. وهم الآن يريدون أن يشرب الثوار العلقم بعدما حرروا مصانع السكر، ويسعون إلى إقامة دولة تليق بمجتمع صنع ثورة. هذه ليست إلّا انتفاضة الدولة الأمنية ضد شباب لا يملكون سوى ذراعهم العارية وحلم وشجاعة لم يكن أحد يتصور أنها ستواجه آلة عنف بهذه الشراسة وتواصل الحلم إلى النهاية. نعم... إلى نهاية الدولة الأمنية. ماذا يريد المجلس العسكري أن يقول عندما يقف جندي على مبنى مجلس الشعب ليتبوّل على المعتصمين والمتظاهرين في شارع القصر العيني؟ الساخرون سمّوه «سلاح التبوّل الإرادي»... ولم يكن هدفه سوى إهانة ثوار يدافعون عن المستقبل في مواجهة ميليشيا همجية تدافع عن الماضي، وتريد استعادة دولة القمع والتسلط والفساد. الشيخ عماد (مدير مكتب المفتي) لم تقيّده وظيفته وحرّره دينه من الخوف من الموت. والطبيب علاء لم يحرص على مستقبله المهني الزاهر ويتصور أن حياته في فقاعته الشخصية ستحميه من الشعور بتعاسة الدولة المتسلطة.
وغيرهم من شهداء مجهولين وشباب اجتهدت عائلاتهم في تعليمهم جيداً، لكنهم بدلاً من الهجرة للاستفادة بحصيلة التعليم الراقي، بحثوا عن طريق لكي يكون بلدهم محترماً... فمن أين جاءت ميليشيا الهيبة الكاذبة؟