بغداد ــ الأخبار ثمة من لا يريد للعراق، وتحديداً لعاصمته بغداد، أن تنعم بليلة هادئة بعد صخب استمر أكثر من ثلاثة آلاف ليلة. ثمة من لا يريدها أن تتلذّذ بطعم الحرية، بل ثمة من لا يريد أن يمحو اللون الأحمر من وجه الزوراء، ليبقى يلازمها برفقة عويل الثكالى والأرامل وبكاء الأطفال، ويبقي في أذهان ملايين الناس صورة للموت والخراب كلما ذكر اسم العراق. هي حتماً ليست المرة الأعنف التي تقع فيها تفجيرات، لكن ردود الأفعال والتوقيت والتزامن وقعت كسهم ذي ثلاث شعب في قلوب العراقيين وسكان العاصمة.

فتفجيرات يوم الخميس الماضي تزامنت مع بداية تسلُّل الأمل إلى قلوب هذا الشعب، باحتمال قدوم أيام أكثر هدوءاً وطمأنينة، بعدما رحل الاحتلال وولّت موجات العنف الطائفي. جميعها أحلام وآمال تبخرت عند الثامنة من صباح يوم الخميس، عندما كانت الأعظمية والشعلة والكرادة، ومعها مناطق علاوي وباب المعظم والدورة، تهتز بـ 12 تفجيراً. هول الخبر ليس في العدد فحسب، بل في النتائج والتوقيت أيضاً، فهي ساعة الذروة الصباحية، حيث الازدحام المروري في أوجه، والموظفون متوجهون إلى وظائفهم، وأصحاب المحال التجارية يهمون بفتح متاجرهم، فضلاً عن الطلاب المتوجهين إلى مدارسهم وجامعاتهم. توقّف الزمن برهة أو اثنتي عشرة برهة. لم يكن بالإمكان حصر العدد بدقة، فالذهول المتبوع بصراخ مترادف ومتصاعد أعاد الأذهان إلى عام ما من الأعوام التسعة السابقة، نقلها إلى مشهد بغدادي دموي بامتياز منذ أصبحت عاصمة الرشيد عاصمة للموت.
يتراكض عناصر الشرطة بسرعة. لا يدرون إلى أين يتّجهون، فسحُب الدخان متناثرة في معظم أرجاء العاصمة، لأن التفجيرات لم تنحصر في مكان واحد، بل زارت أقساماً مختلفة من المدينة كي لا تنحصر ضد فرقة مذهبية واحدة. يتعثّر أحد رجال الشرطة فتصيح إحدى النسوة المختبئات خلف ستار إسمنتي: الله وياك يا وليدي، قوم، انهض... مسكينة هذه العجوز ترى في وقوفه مانعاً من تكرار ما حدث، أو مبلسماً بالحد الأدنى.
في خضم هذا المشهد الأمومي، تنطلق صفّارات سيارات الإسعاف والإطفاء لتنبّه القاصي إلى هول ما حصل، وتوقظ الداني من ذهوله لعلّه يساعد قدر الإمكان على إجلاء الجرحى والقتلى. يفسح الجميع الطريق لتمرّ سيارات الإسعاف. يصيح أحد الرجال بمسعف يهمّ بالترجُّل، أنا طبيب بماذا أساعد؟ «ارجع إلى الوراء»، ليس جواب المسعف، بل ضابط الشرطة، «لا نريد أحداً هنا، لا أطباء ولا إعلام، ولا حتى»... قبل أن يتلفظ بالمحظور. ربما يحق له ذلك في لحظات كهذه، أو ربما لا، فقد تمتمت شفتاه بما لم يفهمه الحاضرون، وأمعن بعدها النظر إلى السماء الموشحة بأسود الدخان، ليعود أكثر حزماً: أغلقوا كل المنافذ إلى المبنى، لا أريد أن يدخل أحد، فتّشوا كل من يحمل حقيبة، وامنعوا كل الناس من ركن السيارات على جانب الطريق.
لم ينتبه الضابط إلى أن جانب الطريق لم يعد صالحاً أصلاً لركن السيارات، بعدما صار مستقراً للمتفرجين، ومسرحاً لأصحاب المحال التجارية المتضررة بمعظمها. هنا، يتزاحم البشر مع بقايا الحجر والزجاج المتناثر. مَن لم يكن قد فتح محلّه بعد، يسارع إلى تفقده، يحاول صاحب متجر أحذية فتحه فيفشل بسبب تأثره بالانفجار. «لعن الله السياسة وأهلها، يتصارعون على حسابنا». لم يرق هذا القول جاره الذي يجيبه ممتعضاً: أرجوك، لا تشمل الجميع، الكل يعلم أن هذا رد فعلهم على اتهامهم (الـ «هم» هنا تشير إلى نائب الرئيس طارق الهاشمي ربما) بالإرهاب». يتّسع النقاش مع انضمام أحد الصحافيين إلى الحوار. يهز مايكروفونه محاولاً أخذ ردود الأفعال، لكنه يبدأ بالإعراب عن رأيه بعيداً عن كل الأصول المهنية؛ «أكيد هي أيدٍ تريد أن تطاول مساعي الحكومة لضبط الأمن»، يسأل بثقة عالية سرعان ما ثبّطها تمنُّع الرجلين عن الحديث. في هذه الأثناء، خرجت أول سيارة إسعاف. «ألا تنظر إلى الشهداء وهم ينقلون إلى المستشفيات؟ قلنا لك لا نريد الكلام»، يكتفي الرجال بإجابة الصحافي المزعج.
تمضي أكثر من نصف ساعة تكون بعدها قد أخمدت النار وأجليت الجثث، التي قاربت العشرين في المكان، بينما تولّت سيارات الشرطة نقل الجرحى، ليبقى المسرح خالياً للإجراءات الأمنية وللمتضرّرين. الضرر الأقوى ليس ماديّاً، إذ انقضى وقت الذهول وحان الوقت للملمة المخلّفات. كل على طريقته بدأ العمل، إما بمكنسة أصيلة أو بأخرى مصطنعة. تكاد تكون الجولة في الشارع أطول من أي جولة سبقت، مع استراق النظر إلى كل زاوية من الزوايا المنشغلة بورشة فاقت سرعة استحضارها سرعة صوت الانفجارات والإسعافات، لكن هذا لم يمنع من أن يبقى الغضب سيد الموقف. غضب تشعّبت اتجاهاته ولم توفّر سهامه جهة إلا أصابتها، بما فيها أمّ تحاول منع ولدها من سد أذنيه خشية سماع انفجار، بدت كأنها تريده أن يعتاد ذلك، لأنها لا تثق بالآتي...
في نهاية الشارع، كانت الأضرار أقل حجماً. سمح الظرف لأصحاب المصالح هناك بالتجمُّع والتداول بما جرى. هنا، إلقاء اللوم على أحد الأطراف، أمر سابق لأوانه على حد تعبير أدهم، فالعامل في محل الملبوسات يرى أن هذا أحد «التقاليد» في بغداد، «لكنّك مفرط في الاستخفاف، أليس كذلك»، يسأله أحد الواقفين. سؤال يتبعه بآخر: «كيف يمكن ألا توجه اللوم إلى جهة ما؟ لقد وقعت سلسلة انفجارات في توقيت واحد وفي مدينة واحدة (بغداد)، وفي مناطق من لون واحد (شيعي)»؟ يقاطعه أدهم عابساً ومتأفّفاً: لحظة يا أخي، الأعظمية (ذات الغالبية السنية) شنو (ما هي)؟ من نفس اللون؟ إحكي منطق. لا يلتفت إليه ذلك الشاب، بل يركّز نظره على الأرض فاحصاً الحصى برجله: إللي عملها تاقنها، مو ممكن يخلّيها بفرد مكان. يرفع رأسه دون أن ينظر إلى أدهم. يخيّم صمت يتناغم مع صوت كنس الزجاج. تخال نفسك لوهلة أنك في قلب الفرز الطائفي من جديد، وتتذكر أنك في قلب العاصمة العراقية. ربما نجح الفاعل.