لم يكن حزب القراصنة الألماني الذي دخل إلى البرلمان المحلي لمدينة برلين في الانتخابات المحلية الأخيرة بـ15 عضواً، الحزب السياسي الأول الذي يحمل هذا الاسم ولا هو الأخير، بعدما وصلت هذه الظاهرة إلى شمال أفريقيا. لقد أصبحت ظاهرة «القراصنة» في القارة العجوز لافتة للنظر بعد دخول عضو من الحزب السويدي الذي يحمل الاسم نفسه الى برلمان الاتحاد الأوروبي. يمكن القول إن حزب القراصنة السويدي الذي تأسس عام 2006، هو من فتح الباب أمام تشكيل أحزاب مماثلة في العديد من دول أوروبا مثل ألمانيا وهولندا وروسيا، وصولاً الى تونس والمغرب. ففي السويد أصبح حالياً في مركز ثالث أكبر الأحزاب من حيث نسبة عدد الأعضاء.
لم ينطلق هذا النوع من الأحزاب بكافة أجنحته أوروبياً أو عربياً من فكرة أيديولوجية معينة، ولا هو أسير دوغما عقائدية تفرض عليه تحديد خطوطه السياسية العامة وطموحاته المستقبلية، إنما انطلق من فضاء افتراضي في مجال الشبكة العنكبوتية. وديدنه الشفافية التي تجلت بنحو كبير في نشر وثائق سياسية سرية على موقع «ويكيليكس» الشهير. لهذا، كانت لافتة جداً تلك البساطة التي اضطلع بها هؤلاء الناشطون، وغالبيتهم من الشباب، والذين اقتحموا حقل «البوليتيك» بثياب متواضعة وأفكار بسيطة تحاكي العالم الافتراضي الإلكتروني.
لعل جُلّ ما يجمع أجنحة القراصنة، سواء في ألمانيا أو السويد أو غيرمها، هي أهداف تتعلق بإصلاح قوانين المُلكية الفكرية، وتأمين المصادر الحرة للبرمجيات وبراءات الاختراع، والشفافية على المستوى السياسي، فضلاً عن تأييد الحفاظ على الحقوق المدنية في استخدام الهاتف والإنترنت ومعارضة الاحتكارات وتدابير مراقبة المواطنين من قبل السُلطات. لذلك، يسعى «القراصنة» إلى تعزيز حق الفرد في الخصوصية، سواء في تعامله مع الشبكة العنكبوتية أو في حياته اليومية الاعتيادية. وعن نجاحات أحزاب القراصنة، فقد حصل حزبهم في السويد على نسبة 7.13 في المئة من مجمل أصوات الناخبين في انتخابات البرلمان الأوروبي في 2009، وأوصل ممثله كريستيان إنغستروم. أما حزب القراصنة الألماني، فقد تأسس أيضاً عام 2006. وخاض حملات انتخابية عديدة على مستوى المجالس البلدية والبرلمانات المحلية والبرلمان الفدرالي «بوندستاغ»، وصولاً إلى البرلمان الأوروبي. وفي العام الجاري، تمكن من ايصال 15 عضواً (من أصل 142) إلى برلمان العاصمة برلين، بعدما حصل على نسبة 9 في المئة من أصوات الناخبين. لكن هذا الاقتحام المفاجئ للمجلس التشريعي لأهم مدينة (مقاطعة) ألمانية، سبقته مناصب عديدة تبوّأها أعضاء الحزب في مجالس بلدية وقروية، إلى أن أصبح ظاهرة مثيرة للجدل بين الأحزاب السياسية التي وجدت نفسها في مرتبة متخلفة عن الحزب الناشئ، فيما ظهرت حركة لافتة من عضو البرلمان الاتحادي يورغ تاوس، بانتقاله من الحزب الديموقراطي الاشتراكي إلى حزب القراصنة عام 2009. لكن تاوس ترك «القراصنة» عام 2010 عندما أدين بتهمة حيازة مواد جنسية إباحية.

تجديد الدم في الحياة السياسية

ورغم طروحاته العصرية التي تحلّق في سماء العالم التقني، لم ينسَ حزب القراصنة شعار المستشار الألماني الأسبق ويلي براندت: «اغتنموا الفرصة للحصول على المزيد من الديموقراطية»، كما أنه تماهى بنحو كبير مع أفكار الحزب الديموقراطي الحر «FDP» الذي يرأسه نائب المستشارة انجيلا ميركل، وزير الخارجية غيدو فيسترفيله. لكن الحزب الذي يتمتع أعضاؤه بعفوية زائدة في التصرف والتعبير، وجد أن سلوك الـ«FDP» يتناقض مع مبادئه التي يطرحها. كذلك يتقاطع القراصنة في قضايا عديدة مع حزب الخضر الذي تأسس من بقايا أحزاب يسارية وأنصار البيئة في بداية الثمانينات من القرن الماضي.
يلاحظ المتابع لنشاط هذا التيار الوجوه الشابة التي تقوده، بدءاً من رئيس الحزب سباستيان نيرز، والأمين العام فيل شوماخر، وصولاً الى الوجوه النسائية الشابة في قيادته، مثل مديرة الشؤون السياسية مارينا فايسباند ومسؤولة الشؤون القضائية غيفيون ثورمر، وعضو البرلمان التي لا يتجاوز عمرها الـ20 عاماً سوزانه غراف. وبرأي مراقب سياسي ألماني تحدث لـ«الأخبار»، فإنّ «السبب الرئيسي لهذه الحركة هو محاولة تجديد نظام الأحزاب لأن هناك شعوراً لدى الناس بضرورة تجديد الحياة الحزبية التي أصبحت متشابهة ومملّة». المراقب الذي رفض الكشف عن هويته، أشار إلى أن الشعب الألماني بدأ يشعر بضرورة ملحّة لأي تغيير في البرامج السياسية للأحزاب، حيث تسيطر الرتابة على المشهد السياسي.
وعن هوية «القراصنة»، يوضح أنهم «مجموعة من أبناء الشعب، تلامذة وطلاب جامعيون ومهنيون ومشتغلون في مجال المعلوماتية والشبكات العنكبوتية، يطالبون بحرية الصحافة وحرية الانترنت ولا يؤمنون بأيديولوجيا معينة. شعارهم: نحن نسأل وأنتم تجيبون. «هم بسطاء لكن لديهم فكرة جديدة تقتل الملل»، على حد تعبيره.
وعن تعاطي الحكومة والأحزاب مع هذه الظاهرة، يؤكد المراقب أنه تعاطٍ ايجابي عادي من منطلق أنه حزب جديد وقانون الحريات يكفل أن يقوم أي حزب بممارسته السياسية، مؤكداً أن الليبراليين أنفسهم تخلّوا عن بعض هذه الأفكار حين وطأت أقدامهم بلاط السلطة. وفي سياق الحديث عن الدوافع، يرى المراقب نفسه أن ثمة سببين دفعا الناس لاختيار هذا الحزب: الأول هو حرية التواصل عبر وسائل الاتصال الحديث (انترنت وهاتف)، والثاني هو الملل من الأحزاب الأخرى، فجلّ «ما يريده الألمان تجديد الدم في الحياة السياسية».
المفارقة الأهم في طبيعة هؤلاء الشباب أنهم، رغم تناولهم للسياسة كفضاء مفتوح وواضح مثل مدى البحر، تجدهم في علاقاتهم مع الأحزاب الأخرى شبه معزولين باستثناء حزب الخضر الذي قد يجدون فيه شريكاً أساسياً في المستقبل، بحسب قول المراقب الألماني. «هم ينتقدون الأحزاب لأنها حين تصل الى السلطة تتغير، لذلك هم حريصون على التواصل مع الناس عبر الانترنت ومن خلال موقعهم في البرلمان، رغم أن ظاهرتهم لا تزال محدودة في العاصمة وبعض الولايات التي تشهد نشوءاً بطيئاً»، وفق كلامه.
اللافت في الموضوع أن القراصنة يتحدثون بتواضع عن أنفسهم بأنهم لا يحملون أفكاراً جديدة ولا يطرحون حلولاً سحرية، إنما هم مجرد حزب جديد يبحث عن موقع في المشهد السياسي. وقد تكون الأسباب الأساسية التي دفعت هؤلاء إلى الى الإبحار في يمّ السياسة بأشرعة القرصنة وأفكار التحرر، تلك الممارسات التي حوّلت الأنظمة الديموقراطية في الغرب إلى أنظمة رقابة وإخلال بالخصوصية والحريات الشخصية بذريعة محاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن.
ولعل المحطة الأبرز التي تعزز مواقع هؤلاء في المشهد السياسي الألماني ما كشفته وسائل الإعلام أخيراً، عن فضيحة استخدام وزارات الداخلية المحلية لبرنامج تجسس على الاتصالات والإنترنت، في عدة ولايات ألمانية.
فقد أكدت وزارة الداخلية في ولاية بافاريا الجنوبية، أن موظفين تابعين لها استخدموا برنامج التجسس الحاسوبي الذي كشفه خبراء نادي «سي سي سي» الألماني للكمبيوتر على الإنترنت. أما هيئة الاذاعة الألمانية «دويتشه فيله» فقد أوضحت من جهتها، على موقعها الالكتروني، أن الكشف عن هذا البرنامج، الذي يتم من خلاله دس برامج تجسس أخرى في أجهزة مشبوهة وغير مشبوهة من دون علم أصحابها، قد أثار الكثير من السجال الإعلامي بشأن الجهة الرسمية التي وافقت على استخدامه، مما جعله يعرف إعلامياً بـ«حصان طروادة الدولة».
لذلك قد يكون هذا الأسلوب الأمني الجديد الذي وصل الى أروقة الإدارات الرسمية الأوروبية، سبباً في اختيار الناس لمن يطالب بالحرية في هذا العالم الافتراضي الذي بقي لسنوات بعيداً عن دوائر القرار. كلام مفاده أن «القراصنة» باتوا يلاحقون «حصان طروادة الدولة» للحد من جموحه في التجسس على الحياة السياسية والتدخل في الأمور الشخصية.
أما الموقع الالكتروني لحزب القراصنة، والذي يتيح لكل الناس إمكانية التواصل مع أعضائه وسؤالهم أو تقديم الاقتراحات لهم، فيحدد أهدافه بنحو واضح من خلال هذه العناوين: الدفاع عن حقوق الشعب، وتقرير مصير المعلوماتية والشفافية، وتجديد قوانين حرية المعلومات وحقوق الطبع والنشر وحماية براءات الاختراع، كما يهتم بسياسة «الجندر» وسياسة العائلة والتعليم والبيئة، والبنية التحتية التقنية، مختصراً كل مطالبه بشعار يعتبره الأهم، وهو المشاركة في الحياة الرقمية (ديجيتال).
وعُرف عن هؤلاء الناشطين تواضعهم لدرجة أنهم، وبعد فوزهم بمقاعدهم الـ15 في برلين، طالبوا بدرّاجات هوائية بدلاً من السيارات لأعضاء كتلتهم. وفي عددها الصادر في 8 تشرين الثاني الماضي، عنونت صحيفة «زود دويتشه» الواسعة الانتشار: «قراصنة في البرلمان»، حيث كتب الصحافي ديريك فون غيلين، بأن الحزب أصبح في الوقت الحالي محل تعاطف كافة الأطراف. وقال «يبدو أن ثمة من ينسى أن الحزب تأسس كحركة للدفاع عن الحقوق المدنية الرقمية وهو يريد النضال من أجل قانون جديد لحقوق النشر».
أما صحيفة «شبيغل» الالكترونية، فأشارت بدورها الى أن هدف حزب القراصنة هو الشفافية الكلية، فيما اختصر البعض توصيفه بكلمة: حزب سياسي لحماية «المجتمع الفايسبوكي».



قراصنة في تونس والمغرب أيضاً


على مستوى الدول العربية، كانت تونس السباقة إلى تأسيس حزب القراصنة؛ ففي أيار الماضي، قدّم مدوّنون طلباً رسمياً إلى وزارة الداخلية لترخيص حزب سياسي معارض تحت اسم «حزب القراصنة التونسي»، من بين مبادئه الدفاع عن حرية استعمال الشبكة العنكبوتية. الأمين العام للحزب، صلاح الدين الكشك، شرح سبب التسمية قائلاً «عندما يكون القراصنة في البحر، يكون حقل الرؤية لديهم أوسع ممّن هم على البرّ». وكان العضو السابق في «حزب القراصنة التونسي» سليم عمامو (الصورة)، قد تبوّأ منصب وزير دولة عقب الثورة، لكنه استقال احتجاجاً على إغلاق أربعة مواقع إلكترونية تنتقد الجيش التونسي. وفي المغرب أيضاً، تم تأسيس حزب قراصنة وهو حزب افتراضي على خيوط الشبكة العنكبوتية، وطالب بالحرية والديموقراطية والشفافية وتجاوز الرقابة في الانتخابات البرلمانية التي اُجريت في 23 الشهر الماضي.