لم تنته أزمة نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي تماماً في ظل استمرار الوساطات بشأنها، وعدم تأكيد التسريبات التي تتحدث عن التوصل إلى تسوية لها. ورغم ذلك، فإنّ تداعيات هذه الأزمة وآثارها الاجتماعية والسياسية بدأت بالظهور والانتشار سريعاً. وفي ما يتعلق بالوساطة الإيرانية التي أعلنت عنها صحيفة «العالم» البغدادية، والتي جاءت، بحسب قيادة قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي (دولة القانون)، بطلب مباشر من قيادة قائمة اياد علاوي «العراقية»، فإنّ الأنباء حولها أفادت بأنها انتهت إلى اقتراح مؤتمر للمصالحة بين الأطراف العراقية في طهران. اقتراح أثار مشاعر سخط واستنكار جماهير «العراقية» قبل غيرهم، على قاعدة أنه كيف يمكن قيادتهم، التي ترى أن كل الشرور تأتي من إيران، أن تطلب وساطتها. وقد أشار محللون عراقيون إلى أن تلك المشاعر لم تكن حكراً على جمهور «العراقية» وقاعدتها، بل طاول عدداً من قادتها ونوابها؛ ورأى بعض هؤلاء الممتعضين أن طلب «العراقية» التدخل الإيراني، والاستخباري تحديداً، يدلّ على أن الهاشمي ربما يكون في ورطة حقيقية، وأن وضعه القضائي والقانوني غير مريح بتاتاً. إضافة إلى ذلك، فإنّ أكثر من نائب من «العراقية» دعوا الهاشمي إلى المثول أمام القضاء والردِّ على الاتهامات الموجهة له، كالنائب رعد سالم دلي، لكنّ أصواتهم ضاعت في صخب الأزمة. ولعل الأبرز في هذا الصدد هو النقد اللاذع الذي وجهه القيادي في «العراقية»، النائب حامد المطلك، شقيق نائب رئيس الوزراء صالح المطلك، لزميله الهاشمي، ورفضه اتهامات الأخير للقضاء العراقي بالفساد والتسييس، ملمحاً إلى أن الهاشمي يحاول شَخْصَنَةَ مسألة قضائية، إضافة إلى أنه «سكت عن أوجاع العراقيين ولم يسكت عن أوجاعه الشخصية». أما تأثيرات طلب «العراقية» لوساطة الاستخبارات الإيرانية فستكون، كما تقول مصادر صحافية، بالغة الشدة والأذى وربما تؤدي إلى مشاكل وتعقيدات كثيرة وكبيرة في قيادة القائمة المذكورة، إذ لا يعقل أن يتهم الهاشمي إيران بأنها هي التي «طلبت من المالكي تحريك ملف الاتهامات ضده من منطلق العداء الطائفي له»، ثم يعود ليطلب، أو يوافق على طلب توسط استخباراتها في حل الأزمة. والأنكى من ذلك، تضيف تلك المصادر، أن الطرف الذي رفض تلك الوساطة ونتائجها هو خصم الهاشمي، أي المالكي نفسه.
التطوُّر الأبرز في موضوع الوساطة الإيرانية كان النفي الكردي الجازم لوجودها أصلاً. هذا النفي صدر عن فيصل الدباغ، السكرتير الصحافي لرئيس الإقليم مسعود البرزاني بعد 12 ساعة على ذيوع خبرها. نفيٌ ترك المراقبين موزَّعين بين عدّة وجهات نظر، إذ إن البعض تساءل عن سبب تأخر نشر النفي ليوم كامل، مبرراً إياه بموقف جديد لـ«العراقية»، في مقابل آخرين استنتجوا أنّ الوساطة فشلت تماماً بعد رفض المالكي لعقد مؤتمر المصالحة خارج بغداد، بحسب ما طالب به الأكراد وقادة «العراقية»، ثم جاء بيان النفي لينعى الوساطة كلها. وقد تساءل طرف ثالث عن كيف ينفي الجانب الكردي وجود هذه الوساطة، بعدما أكّد وجودها القيادي في قائمة «العراقية» عصام العبيدي، إضافة إلى القيادي في «دولة القانون» عدنان السراج، وقد كشفا أن «إيران تحركت بالفعل للتوسط»؟
وعن تداعيات أزمة الهاشمي وآثارها، يرى محللون عراقيون أن بعضها يحمل دلالات بالغة السوء يُفهم منها تعمُّق الاستقطاب والاستعداء الطائفيين بين العرب السنة والشيعة خصوصاً. غير أنّ بعض تلك التداعيات والآثار تحمل طابعا «إيجابياً» يُفهم منه بحسب البعض أنّ الاستقطاب الطائفي لا يزال حتى الآن سياسياً بين القوى والأحزاب الطائفية، ولم يتحول تماماً إلى استقطاب طائفي مجتمعي بين جمهور الطائفتين الواسع. وهنا عرض سريع لنماذج حَدَثِيَّةٍ من تلك التداعيات والآثار:
وفقَ تصريحات بارزة أدلت بها النائبة عن قائمة «العراقية» لقاء مهدي وردي، رئيسة لجنة المهجرين في البرلمان، فإن حملة تهجير طائفية قد حدثت خلال الأيام الماضية في بغداد والبصرة. وقالت وردي إنها تلقت شكاوى وأنباء عن حملة تهجير قسري طاولت عائلات كثيرة «تركت مناطقها التي تتعرّض لمداهمات واعتقالات عشوائية بنحو دائم»، لا سيما في أبو غريب وحي الجامعة وبعض المناطق القريبة من بغداد، وحتى في محافظة البصرة، كمناطق الزبير وأبو الخصيب، على حد تعبيرها، علماً أن جميع هذه المناطق ذات غالبية عربية سنية.
وقد حمل تصريح وردي أكثر من تفسير وفق بعض المحللين، فهل كان ما حدث تهجيراً قسرياً قام به طرف طائفي ضد آخر، أم هو هجرة ذاتية قامت بها تلك الأسر بدافع الخوف من المداهمات والاعتقالات التي تقوم بها القوات الأمنية؟ يبدو أن الأمرين قد حصلا بالفعل؛ فالهجرة في ظروف أمنية كهذه أمر محتمل جداً، والتهجير الذي قد يقوم به متشدّدون طائفيون محتمل أيضاً، لكن النتيجة ستبقى كما هي بخصوص الطرف الذي يتحمل مسؤوليتها، وهو هنا الطرف الحاكم، وخصوصاً أن ما حدث كان في مناطق تعتبر هادئة أمنياً وتحت سيطرة الحكومة تماماً. اللافت أنّ ردَّ الحكومة غير المباشر على هذه الأنباء جاء على لسان وزارة المهجرين نفسها التي أعلنت أنّ أكثر من 1800 عائلة مهجرة عادت إلى مساكنها الأصلية في محافظة ديالى. وقد رأى البعض في هذا الإعلان مجرد دعاية، ومحاولة للتشويش على أخبار التهجير لا أكثر.
تطوُّر آخر نتج من هذه الأزمة ترجمته الأنباء الآتية من جنوب العراق وتفيد بأنّ انهياراً سياسياً وتنظيمياً قد حدث داخل حركة «الوفاق العراقي» التي يقودها علاوي في محافظة ذي قار. انهيار تمثل في استقالة وانسحاب كافة أعضاء قيادة الحركة علناً وأمام وسائل الإعلام احتجاجاً على سياسات قائمة «العراقية»، التي وصفوها بـ«المخجلة»، وتحديداً على خلفية موقف قيادتها من قضية الهاشمي. وقد أجمع معظم المحللين على أنّ هذا الانهيار يحمل إشارات طائفية سلبية وواضحة تماماً، مهما يكن الرأي في أداء قائمة «العراقية» السياسي، وموقفها من قضية الهاشمي؛ فما حدث يحسب من جانب بعض المحللين ضمن ظاهرة الاستقطاب والانحياز الطائفي المسبق: حركة سياسية تزعم أنها غير طائفية، تنهار لأسباب واضحة عبّر عنها المنسحبون، وخلاصتها أنّ قيادتهم اتخذت مواقف مضادة ومعارضة لموقف القوى الطائفية السائدة في المنطقة التي تنشط فيها.
ومن التداعيات التي تنطوي على دلالات إيجابية ومعاكسة للواقعة السابقة، سجّل المراقبون أن التظاهرات المعادية للهاشمي، والمطالبة بتقديمه للعدالة كانت محدودة جداً من حيث الجغرافيا والمشاركة فيها، إضافة إلى كونها ذات طابع حزبي مبرمج من قبل بعض الأحزاب والقوى الطائفية «الشيعية». أيضاً، وفي المقابل، فقد كانت التظاهرات المؤيدة للهاشمي، محصورة في بعض مناطق شمالي بغداد، وخصوصاً في مدينته سامراء وبلدات صغيرة قليلة أخرى محدودة من حيث الجغرافيا والمشاركة. هذا يعني، وفق تفسيرات باحثين اجتماعيين، أن جمهور مناطق العرب السنة لم يتأثر بالتحشيد الطائفي الذي حاولت بعض الأطراف في قائمة «العراقية» القيام به، شأنه شأن جمهور مواطنيهم في الطائفة الأخرى.
يستنتج بعض الباحثين من هذه الوقائع أن ظاهرة الاستقطاب الطائفي، رغم قوة وعنف الأحداث وشدة الأزمة السياسية التي خلفتها قضية الهاشمي، لا تزال قوية وفعالة على المستوى السياسي، أي على مستوى النخب السياسية، لكنها ظلت بسيطة وهامشية على المستوى الجماهيري والشعبي في جميع مناطق العراق، وهذا بحد ذاته بشير خير على المدى البعيد.