من بين الزيارات الخارجية الثلاث التي قام بها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أخيراً، إلى دول غربية، تبدو زيارته إلى فرنسا الأقلّ جاذبية مقارنة بمحطّتَيه في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. يبرز ذلك من خلال عدة مؤشرات لعلّ أهمها ثلاثة: أولها أن ابن سلمان لن يقضي في فرنسا أكثر من 3 أيام، بعد 3 أسابيع كاملة أمضاها في أميركا، علماً أنه «لم يقتنع بزيارة فرنسا (أصلاً) إلا بصعوبة»، على حد قول خبراء فرنسيين يرون أن الأمير الشاب «معجب جداً بالأميركيين»، فيما ينظر «ببعض الريبة إلى الفرنسيين». وثانيها أن الزائر غيرَ المرغوب فيه من قبل المنظمات الحقوقية ألغى، على نحو مفاجئ، زيارة إلى مجمع كبير للشركات التكنولوجية الناشئة في باريس، وهو ما يُرجّح أنه خلّف إحباطاً لدى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. أما ثالث تلك المؤشرات فهو تواضع حجم الاتفاقات التي سيتمّ توقيعها في العاصمة الفرنسية، وإرجاء إبرام الاتفاقات الاستراتيجية إلى ما قبل نهاية العام.على ضوء ما تقدم، يظهر واضحاً أن ثمة جفاء بين الجانبين، تُرجم ببروز توتر في بعض مفاصل الزيارة، وفقاً لما أفادت به مصادر فرنسية. توتر تتصدّر العواملَ الكامنة خلفه إيران، التي تمثل اليوم الهمّ الرئيس وشبه الوحيد لابن سلمان، والتي تتقدم بلاده صفوف المحرضين ضدها وضد الاتفاق النووي معها. بحسب تقرير نشرته صحيفة «La Tribune» الفرنسية، فإن «الملك غير المنصّب» أبلغ ماكرون بأن الشركات الفرنسية - شأنها شأن المجموعات الأميركية - يمكن لها الاستفادة من عقود مع السعودية شرط عدم تعاملها مع إيران. وهو ما أثار، طبقاً للصحيفة نفسها، سخط ماكرون الذي ردّ على ابن سلمان بأن بلاده لا تختار طرفاً بين الرياض وطهران، وإنها «تتحدث إلى الجميع». هذه المحادثة، التي دارت خلال عشاء خاص في متحف اللوفر، تجلّي الفوارق بين الرياض وباريس في ما يتصل بملف إيران النووي ودورها الإقليمي، وانعكاساتها المحتملة على إرادة ما سمّاه الإليزيه «بناء تحالف مع السعوديين».
على الرغم من مهاجمتها المتواصلة لبرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، إلا أن فرنسا لا تزال تبدي حرصاً على استمرار الاتفاق النووي، مُتولّيِةً قيادة المساعي الأوروبية لإقناع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعدم الانسحاب من الاتفاق مقابل فرض عقوبات على طهران. في المقابل، تبذل السعودية، بقيادة ابن سلمان، أقصى جهودها للإطاحة بـ«الوثيقة المشتركة الشاملة»، محاوِلةً تقديم نفسها كبديل تمكن المراهنة عليه في الاستثمارات النووية، وابتزاز الأوروبيين بإمكانية حرمانهم من الفرص التي تتيحها «رؤية 2030». وإذا كان ولي العهد السعودي لم يجد صعوبة في التحريض على طهران داخل الولايات المتحدة - وإن بدت خطته لإقناع الأميركيين بمساعدة بلاده على تطوير برنامجها النووي غير مثمرة أقله على المدى المنظور - فإنه لم يلقَ الممالأة نفسها في باريس التي تجتهد في حماية اتفاق فيينا، بهدف شق طريقها نحو السوق الإيرانية الواعِدة بالنسبة إليها.
تم الإعلان عن استراتيجية جديدة لتصدير السلاح إلى السعودية


هذا الافتراق يستبين أيضاً في ملف لبنان، الذي لا يبدو «من السهل إطلاقاً لمستبد مثل ابن سلمان القبول» بتدخل ماكرون في قضية احتجاز رئيس وزرائه، سعد الحريري، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. تتطلّع باريس إلى أن «يكون لبنان مستقراً قدر الإمكان»، بحسب ما يؤكد خبراء فرنسيون، مشددين على أن «هذا الأمر لا يمر إلا باتفاق ما» مع «حزب الله»، وهو ما يمانعه السعوديون. أما في ما يتصل باليمن، فقد ظهر لافتاً أن الحكومة الفرنسية لم تَسْتَمِت، مثلما فعلت نظيرتها البريطانية، في إبطال دعوات المنظمات الحقوقية إلى وقف بيع الأسلحة إلى السعودية على خلفية الجرائم المرتكبة في هذا البلد، وتخفيف الحصار المفروض على الموانئ اليمنية. والأمر نفسه انسحب إزاء مطالبات منظمات أخرى بالضغط على الرياض لوقف الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وتذكيرها بأن «السعودية تحتل المرتبة الثالثة على قائمة أكثر الدول إعداماً للسجناء».
كل تلك الخلافات خيّمت على زيارة ابن سلمان الأخيرة ضمن جولته الأوروبية والأميركية، لتخلّف تأثيراتها على أجندتها ومخرجاتها. يوم أمس، أعلن مسؤول في مكتب رئيس الوزراء الفرنسي أن ولي العهد السعودي ألغى زيارة كانت مقررة إلى مجمع «ستيشن إف»، أكبر مجمع للشركات الناشئة في أوروبا، على الرغم من أنه كان زار عمالقة التكنولوجيا في وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي. وبرّر المصدر الفرنسي إلغاء الزيارة بأنه «تقرّر مواصلة العمل على تحديد المشروعات التجارية الفرنسية - السعودية قبل التطلع إلى زيارة رفيعة المستوى يمكن أن تجري الشهر المقبل». كذلك، أُرجئ توقيع العقود ذات الطابع الاستراتيجي إلى ما بعد «إعداد وثيقة استراتيجية ستصبح جاهزة بحلول أواخر 2018، على أن تَنتج منها عقود يتوجه ماكرون إلى السعودية بنهاية العام لتوقيعها»، بحسب ما أفادت به مصادر مقربة من الرئاسة الفرنسية.
بنتيجة ذلك، لن يتجاوز عدد البروتوكولات التي سيتم توقيعها خلال الزيارة 18 بروتوكول اتفاق في مجالات السياحة والطاقة والنقل، فضلاً عن اتفاقية تعاون لتطوير منطقة العلا في الحجاز، ذات الطابع الأثري التاريخي. ومن بين تلك الصفقات، المنتظر إبرامها اليوم الثلاثاء، ثمانية اتفاقات ستوقعها شركة «أرامكو» السعودية النفطية مع شركات فرنسية، بقيمة 10 مليارات دولار. أما على مستوى الدفاع، فقد أُعلن عن استراتيجية جديدة لتصدير السلاح إلى السعودية، والذي كانت تتولاه شركة «أو دي إيه سي». وبحسب مسؤول في وزارة الدفاع الفرنسية، فإن الصادرات «ستصبح الآن مشمولة ضمن اتفاقية حكومية بين البلدين»، في حين «ستتولى شركة (أو دي إيه سي) فقط استكمال العقود القائمة». والجدير ذكره، هنا، أن فرنسا تُعدّ من أكبر مصدّري السلاح إلى السعودية، التي حصلت العام الماضي على تصاريح بتوريد أسلحة تفوق قيمتها 20 مليار دولار.