كلّما طال أمد الأزمة بين السعودية والإمارات من جهة وبين قطر من جهة أخرى، كلّما تكشّفت فصول جديدة عن حجم الإنفاق الخليجي المهول على أنشطة الدعاية والعلاقات العامة داخل الولايات المتحدة. أنشطةٌ تؤكد وسائل الإعلام الأميركية أن المستفيد الرئيس منها إنما هو مجموعات الضغط، التي دخلت، منذ ما بعد اندلاع الأزمة في حزيران/ يونيو الماضي، فترة ازدهار جديدة كان لكلّ من أبو ظبي والدوحة «الفضل» الأكبر في بلوغها. وبالنظر إلى استمرار واشنطن في التعامل مع الخلاف بوصفه مصدر «تكسّب» دائم، وكذلك إصرار دول المقاطعة على عدم إنهاء الأزمة إلا بانتزاع تنازلات كانت تتوقع جنيها خلال «36 إلى 48 ساعة» وفق ما كشف دبلوماسي أجنبي أخيراً، فإن تسابق «الأشقاء» للفوز بمعركة اللوبيات يبدو أنه سيستمر طويلاً.آخر ما تمت إماطة اللثام عنه في هذا الإطار هو إسداء الإمارات أكثر من 500 ألف دولار للرئيس التنفيذي السابق لشركة «بيل بوتينغر»، تشارلز أندريه، بهدف إنتاج فيلم وثائقي من ستة أجزاء، يثبت علاقة قطر بالإرهاب العالمي (لعبت هذه الشركة دوراً أساسياً في العمل الدعائي لصالح الإدارة الأميركية إبان غزو العراق).
جرى إنتاج الفيلم بالفعل بحسب تقرير نشرته مجلة «ديلي بيست»، ليُعرض نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي خلال فعالية أقيمت في معهد «هادسون»، حضرها مستشار الرئيس الأميركي (سابقاً)، ستيف بانون، ووزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، ومدير وكالة المخابرات المركزية (سابقاً)، ديفيد بترايوس، ولتُوزّع منه نسخ كثيرة خلال الفعالية نفسها.
الفيلم الذي تمّ التعاقد بشأنه مع شركة ناشئة مقرها دبي (لابيس للاتصالات) بحسب نسخة من العقد رفعتها شركة أندريه إلى وزارة العدل الأميركية (بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب)، لم يكن أول ما بادرت إليه الإمارات في مواجهة قطر. إذ لم تكد تمرّ فترة وجيزة على انفجار الخلاف، حتى أبرم «المجلس الوطني للإعلام الإماراتي» عقداً بقيمة 250 ألف دولار مع شركة علاقات عامة في لندن لإطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي ضد الدوحة، طبقاً لما ذكرته «ديلي بيست». وإلى جانب الخطوتَين المتقدّمتَين، تُضاف العقود التي ربّحتها الإمارات شركةَ رجل الأعمال الأميركي، المقرّب من ترامب، إليوت برويدي، الذي كانت له يدٌ طولى في الحملة على قطر.
تتسابق كل من الدوحة وأبو ظبي للفوز بمعركة اللوبيات الأميركية


على المقلب القطري، لم تختلف الصورة إلا في هوية المتعاقَد معهم. منذ الشطر الأول من الأزمة، عملت الدوحة على تعزيز جهدها الدعائي داخل الولايات المتحدة، والذي بلغ ذروته قبيل زيارة أمير البلاد، تميم بن حمد، الأخيرة إلى واشنطن. تزامناً مع تلك الزيارة، كشف موقع «مونيتور» أن السفارة القطرية في أميركا أبرمت عقداً بقيمة 175 ألف دولار شهرياً مع منظمة «بالارد بارتنرز» (التي سبق لها العمل لصالح ترامب خلال حملته الانتخابية)، بهدف الحصول على «استشارات استراتيجية وخدمات ترويجية ودعائية»، فضلاً عن «ممارسة الضغط على الإدارة الأميركية لصالح قطر» في ما يتصل بتعزيز العلاقات الثنائية، ورفع مستوى التجارة والاستثمار بين الجانبين. وجاء التعاقد مع «بالارد بارتنرز» من ضمن حملة شاملة تضمنت، كذلك، عقوداً مع جماعات ضغط أخرى في مقدّمها «ميركوري بابليك أفيرز»، وشخصيات على رأس قائمتها النائب السابق في مجلس نواب فلوريدا، خوسيه فيليكس دياز. واللافت أيضاً أن زيارة تميم الأميركية ترافقت مع جولات قام بها كبار رجال الأعمال والمسؤولين الاقتصاديين القطريين إلى عدد من الولايات الواقعة على الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
الجهد والإنفاق المتعاظمان في مجال العلاقات العامة ليسا إلا جزءاً من «الخوّة» المطلوبة أميركياً من المقاطِع والمقاطَع على السواء. وهي ضريبة لا يُتوقّع أن يتردّد الخصمان في الإيفاء بها، على الرغم من الضبابية التي تلفّ الوعود «الترامبية» لهما على أكثر من مستوى. في هذا الإطار، يتوقّع «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» أن تقترح قطر شراء المزيد من أنظمة الأسلحة الأميركية، وتَعرِض افتتاح قاعدة للأسطول الأميركي الخامس في ميناء حمد جنوبي الدوحة، في حين تمضي السعودية في تسديد الفاتورة المتوجبّة عليها من وجهة نظر ترامب؛ كونها إحدى الدول «التي لن تستمرّ أسبوعاً واحداً من دون حمايتنا، وعليها أن تدفع ثمناً لذلك». لكن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، قرأ تصريح الرئيس الأميركي أمس على أنه إشارة حصرية إلى الدوحة، مشدداً على ضرورة أن «تدفع قطر ثمن وجود القوات العسكرية الأميركية في سوريا، وأن تقوم بإرسال قواتها إلى هناك، قبل أن يلغي الرئيس الأميركي الحماية الموفّرة لها، والمتمثلة في وجود قاعدة العديد على أراضيها». موقفٌ يشي بامتعاض سعودي من فارق الثمن الذي يطلبه ترامب من كلّ من الدوحة والمعسكر المناوئ لها، ويستبطن تحريضاً على إمارة الغاز التي لم تتأخّر إلى الآن عن «وضع بيضها» في سلّة الرئيس الأميركي.
إلا أن الأخير قد يجد في كلام الجبير فكرة يمكن الاستئناس بها، خصوصاً أنه لا يزال يرى في الخلاف الخليجي فرصة لملء جيوب الإدارة الأميركية بـ«الفستق» المتدفق، مُؤثِراً حتى الساعة الاكتفاء بدعوة المتخاصمين إلى الاتحاد في مواجهة إيران والإرهاب. وما يعزّز النظرة التشاؤمية إلى فرص حلّ الأزمة، التي يشكّك كتاب أميركيون في إمكانية إنهائها قريباً، هو التصريح الصادر أمس عن نائب وزير الخارجية الكويتي، خالد الجار الله، في أعقاب زيارة لوزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إلى الكويت سلّم خلالها أمير البلاد، صباح الأحمد الصباح، رسالةً من أمير قطر. إذ قال الجار الله إن «الظروف لم تنضج بعد لعقد قمة أميركية - خليجية»، محذراً من تداعيات استمرار الخلاف على «الأوضاع الأمنية في المنطقة»، وعلى آليات عمل مجلس التعاون التي تعطّل معظمها بسبب الأزمة.