في الوقت الذي كان فيه المحقق الخاص روبرت مولر وفريقه، ومعه الصحف الأميركية وزمرة من الديموقراطيين، منهمكين بالبحث عن الدور الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتقصي حقيقة العلاقات التي تربط الرئيس الأميركي دونالد ترامب بموسكو، رُفع الستار، عن قصد أو عن غير قصد، عن تحركات إماراتية مشبوهة داخل أروقة البيت الأبيض ومحيطه، تشير جميعها إلى انخراط «آل زايد» في لعبة شراء النفوذ السياسي.في آذار/مارس الماضي، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عن دور إماراتي محتمل في الانتخابات الأميركية، بقيادة اللبناني ــ الأميركي جورج نادر وبتكليف مباشر من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان. جاء ذلك في سياق التقارير المنبثقة عن لجنة التحقيق المكلفة من قبل وزارة العدل الأميركية، والتي تركزت على اجتماعات عُقدت بين فريق ترامب وشخصيات «مقربة» من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إلى حدّ ما، مر دور أبوظبي مرور الكرام، حتى الأسبوع الماضي، حين أعادته مجلة «فاست كومباني» الأميركية إلى الواجهة، معتبرة أنه وفي خضم التدقيق في التدخل الروسي المزعوم فإنه تمّ التغاضي عن محاولات الإمارات العديدة للتأثير على إدارة ترامب.

البداية في جزيرة سيشل
ألقت «فاست كومباني»، في تقرير مطوّل نشرته الجمعة الماضي، الضوء على مساعي «الحاكم الفعلي لدولة الإمارات» محمد بن زايد، للتدخل في قرارات البيت الأبيض، مشيرة إلى وجود مؤشرات على أن مجموعة «ترامب ــ الإمارات» لديها بالفعل درجة مخيفة من التأثير على السياسة الخارجية الأميركية. واعتبرت المجلة أن علاقة ترامب وأبوظبي تحتاج إلى مزيد من الاهتمام، لا سيما أنها قد تدفع الولايات المتحدة إلى «مغامرات أكثر خطورة في الشرق الأوسط».
يرسم لنا التقرير المشهد في فندق Four Seasons في جزيرة سيشل في 11 كانون الثاني/يناير عام 2017، أي قبل أسبوع من تنصيب ترامب رئيساً. يجلس رجل أميركي في منتصف العمر إلى جانب رجل روسي يصغره سناً، يتحدثان بصوت منخفض حتى لا يستطيع «العرب»، منظمو هذا اللقاء، الواقفون على مقربة منهما التنصت. قبالة سواحل شرق أفريقيا، جلس مؤسس شركة «بلاك ووتر» الأمنية إيريك برينس، مع رجل الأعمال الروسي كيريل ديميترييف، في اجتماع حضره بن زايد.
يقول مسؤولون أميركيون وأوروبيون إن الاجتماع، في جزء منه، كان يهدف لإقناع روسيا بسحب دعمها للرئيس السوري بشار الأسد، وفي الوقت نفسه إنشاء قناة خلفية بين ترامب وروسيا.
ولكن بعيداً عن كل ذلك، تساءل التقرير عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الوساطة والمنفعة المباشرة منها، ليتوسع النقاش حول العلاقات الإماراتية ــ الأميركية بشكل عام وتأثيرها على المواقف الخارجية والداخلية للولايات المتحدة.

الأجندة الإماراتية
يناقش المقال حتمية وجود مجموعة من الأسباب الأخرى ذات المصلحة الذاتية لتلقارب الإماراتي من الإدارة الأميركية، ليتبين أن أبوظبي سعت إلى حث ترامب على دعم الحصار المفروض على قطر منذ عام 2017، العدوان السعودي ــ الإماراتي على اليمن، ونقل المقر الرئيسي للقيادة المركزية الأميركية إلى خارج قطر وقطع علاقات البنتاغون مع الدوحة.
بل إن تأثيرها طال الداخل الأميركي، إذ إنها دفعت باتجاه إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون. ووفق المجلة، فإن قرار الإقالة في آذار/مارس الماضي، جاء بدعم من قِبل جماعات الضغط غير المسجلة في دولة الإمارات، بعد تدخل تيلرسون لوقف «الغزو» المخطط لقطر من قبل السعودية والإمارات. ففي تشرين الأول الماضي، دعا مستشار بن زايد جورج نادر، الرئيس إلى إقالة تيلرسون «ولكن فقط في الوقت المناسب سياسياً»، كما قال في مذكرة إلى الناشط الجمهوري إليوت برودي، إن «تيلرسون سوف يغادر في 31 آذار/مارس 2018».


قنوات الضغط
بالعودة إلى اجتماع سيشل، قال مؤسس «بلاك ووتر»، وهو أيضاً شقيق وزير التربية في إدارة ترامب، إنه تمت دعوته من قبل أحد أعضاء الأسرة الحاكمة في أبوظبي لمناقشة كل شيء من «القضايا الأمنية إلى قضايا المعادن وحتى البوكسيت»، وإنه التقى «بالصدفة» برجل الأعمال الروسي.
وديميترييف هو الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار المباشر الروسي، وهو صندوق الثروة السيادية للدولة الذي تبلغ قيمته 10 مليارات دولار وفُرضت عليه عقوبات أميركية أخيراً. ويتمتع ديميترييف بصلات وثيقة مع أبوظبي، إذ إن صندوق أبوظبي للاستثمار السيادي استثمر مع الصندوق الروسي في 40 استثماراً في روسيا منذ عام 2013.
وقال برنس، في شهادته في مجلس النواب الأميركي، إنه التقى مع ولي عهد أبوظبي «أكثر من 12 مرة». وفق المجلة، بدأ برنس في عام 2010 ببناء جيش خاص لمحمد بن زايد بمبلغ 529 مليون دولار، وساعد في تدريب قوة صومالية لمكافحة القرصنة ممولة من الإمارات. كذلك، قام بتدريب المرتزقة الذين يقاتلون تحت علم دولة الإمارات في اليمن. وفي عام 2012، عندما أطلق برنس شركة أسهم خاصة، FRG) Frontier Resource Group)، ضمت قائمة المستثمرين الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان من العائلة المالكة في أبوظبي.
وبالإضافة إلى بن زايد وبرنس وديمترييف، ضم اجتماع سيشل، وفق صحيفة «ديلي ميل»، كلاً من رئيس المخابرات الإماراتية حمد المزروعي، ومستشار ولي عهد أبوظبي السياسي الفلسطيني محمد دحلان، وجورج نادر، الذي ساعد في ترتيب الاجتماع وتم استجوابه من قبل مولر.
ويلعب نادر على هامش الدبلوماسية الدولية لأكثر من ثلاثة عقود، حيث أجرى محادثات سرية مع السوريين حول العلاقات مع إسرائيل خلال فترة بيل كلينتون، قبل أن يصبح مستشاراً خاصاً لبن زايد، الذي التقى به لأول مرة بينما كان يمثل متعهدي الأمن في عراق ما بعد الغزو. ووفق تحقيقات صحافية، صدرت بحق نادر أحكام قضائية بعشر تهم تتعلق بقضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال في جمهورية التشيك.
ولم يكن اجتماع سيشل الوحيد المهم الذي رتبه نادر في السنوات الأخيرة، ففي منتصف 2015 ساهم في عقد اجتماع في يخت في البحر الأحمر ضم ولي عهد أبوظبي، ولي العهد السعودي، الرئيس المصري، ولي العهد البحريني، والملك الأردني، كان الهدف منه «الحد من تأثير تركيا وإيران في المنطقة».
مؤشرات على أن مجموعة «ترامب ــ الإمارات» لديها بالفعل درجة مخيفة من التأثير على السياسة الخارجية الأميركية


عمليات «الشراء» السياسية
بعيداً عن حضوره اجتماع سيشل «غير الرسمي»، عقد بن زايد اجتماعاً آخر مع أشخاص مقرّبين من ترامب في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2016، حين اجتمع مع مستشاري ترامب ستيف بانون ومايكل فلين، وصهره جارد كوشنير. وفي خرق البروتوكول، لم تقم الإمارات بإخطار إدارة أوباما بالزيارة مسبقاً.
ويمتلك كل من بانون وكوشنير وفلين علاقات وثيقة مع شركة (Cambridge Analytica Ltd CA)، وهي شركة مملوكة جزئياً لشركة SCL Group Ltd. Infamous، التي قامت بحملة «تأثير سلبي» ضد قطر. ووفق التحقيقات الفيدرالية، تم تعيين SCL Social Limited مقابل 330،000 دولار في تشرين الأول/أكتوبر 2017، من قِبل الإمارات، لتقود حملة لـ«مقاطعة قطر».
كذلك، يتمتع بن زايد بعلاقات مثيرة للاهتمام وعلى نطاق واسع مع عدد من الأميركيين، من بينهم برودي، الذي تملك شركته الأمنية مئات الملايين من الدولارات من العقود الإماراتية، ورئيس لجنة تنصيب ترامب توم باراك، الذي استفادت أعماله العقارية بشكل كبير من صفقات الإمارات.
في التفاصيل، التقى نادر، على هامش انعقاد اجتماع سيشل، ببرودي، الذي تعرف عقب ذلك إلى محمد بن زايد. وساعد الأخير برودي «بشكل سريع جداً» في الحصول على 200 مليون دولار من عقود الإمارات لشركته الأمنية السرية الخاصة Circinus. بحلول 7 شباط/فبراير الماضي، كتب برودي، بطلب من بن زايد، مشروع قانون ضد قطر وأرسله إلى موظف في الكونغرس. وكشفت مجموعة من رسائل البريد الإلكتروني المسربة بين برودي ونادر، التي حصلت عليها وكالة Associated Pressc في أيار/مايو الماضي، أن الثنائي قام بتنظيم حملة ضد قطر، من دون تسجيل نفسيهما كعملاء أجانب، كما هو مطلوب بموجب القانون الفيدرالي، ومن دون التصريح بصدق عن مصادر التمويل والروابط التي تجمعهما بالإمارات والسعودية.
أما توم باراك، المنحدر أيضاً من أصول لبنانية، فلديه علاقات تجارية مع السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، الذي بدوره كان له تأثير كبير على القرار الأميركي. في عام 2009، عمل باراك مع العتيبة لبيع فندق في بيفرلي هيلز مقابل 41 مليون دولار إلى مشروع مشترك نصفه مملوك لصندوق الثروة السيادية في أبوظبي. في عام 2012، استثمر العتيبة نفسه مليون دولار في صندوق أنشأه باراك، والعام الماضي استثمر صندوق استثمار حكومي إماراتي مبلغ 70 مليون دولار في إحدى شركات باراك العقارية لبناء برج مكاتب في لوس أنجليس.



لوحة الـ450 مليون دولار
في عام 2008، دفع الملياردير الروسي ديمتري ريبولوفليف مبلغ 95 مليون دولار لشركة ترامب لشراء عقار في بالم بيتش، والذي كان ترامب قد اشتراه بمبلغ 41 مليون دولار في عام 2004.
في تشرين الثاني 2017، باع ريبولوفليف نفسه لوحة الفنان ليوناردو دافينشي «سلفادور موندي» بسعر قياسي وصل إلى 450 مليون دولار، بعدما كان سعر اللوحة يقدر بحوالى 80 مليون دولار في العام الذي سبقه. ويعود سبب الارتفاع إلى حرب مزايدة بين ممثل ولي العهد السعودي وممثل ولي عهد أبوظبي، اللذين زعم كل منهما أنه ظن أنه كان يزايد ضد القطريين.
«ربحت» الرياض اللوحة، إلا أن بن سلمان قدمها إلى بن زايد مقابل يخت التوباز الفاخر الذي تبلغ قيمته 450 مليون دولار. وتتساءل المجلة الأميركية ما إذا كانت حرب المناقصة وسيلة لتوجيه أموال الإمارات إلى الملياردير الروسي. وفي حين أنه من غير المحتمل أن تكون عملية بيع اللوحة مرتبطة بشراء ريبولوفليف لعقار ترامب في بالم بيتش، لكنه من المعقول أن يكون هذان العقدان جزءاً من عدد أكبر من المعاملات التي لا نعرف عنها حتى الآن، والتي تكافئ فيها دولة الإمارات ترامب بشكل غير مباشر على دعمه.
أعلنت وزارة الثقافة والسياحة الإماراتية أخيراً تأجيل عرض لوحة «سلفادور موندي» في «لوفر أبو ظبي» (من الويب)