في ضوء الضغوط السياسية والاقتصادية المتزايدة على الرياض، لكشف مصير الصحافي جمال خاشقجي، ومطالبة دول حليفة لها بضرورة الكشف عمّا لديها من «معلومات»، تُبدي السعودية «تعاوناً شكلياً» مع تركيا، من خلال المشاركة في التحقيقات التي تجريها أنقرة منذ 12 يوماً، وهو ما وافقت عليه الأخيرة. لكن ذلك يطرح تساؤلات عن التعاطي التركي في القضية، في وقت يُلمح فيه مسؤولون أتراك عبر وسائل إعلام، محلية وغربية، بشكل ممنهج، إلى أن أنقرة تملك الحقيقة الكاملة بشأن مصير خاشقجي، من دون أن تتهم أنقرة السعودية رسمياً باغتياله، في تناقض واضح مع نتائج التحقيقات التي تكشف عنها تباعاً، ما يشي بأن القضية باتت تستخدم كـ«ورقة» ضغط سياسية ضد الرياض.وفي إطار «التعاون» السعودي مع تركيا، دخل 11 شخصاً مقرّ القنصلية السعودية في إسطنبول، أمس، للمشاركة في التحقيق، ومن المتوقع أن يلتقي الوفد السعودي مسؤولين أتراكاً نهاية الأسبوع. فحتى الآن، لم تترجم نيّات الرياض بـ«التعاون» على الأرض، فلا هي سمحت للمحققين الأتراك بالتحري عن أثر لخاشقجي في مبنى القنصلية، ولا أعطت تسجيلات الكاميرات المثبتة داخل القنصلية للسلطات التركية، للتأكد من مزاعم مسؤوليها بأن خاشقجي خرج منها في اليوم نفسه، ولم تسمح أيضاً بدخول منزل القنصل، محمد العتيبي، حيث يشتبه في وجود جثة خاشقجي داخلها، بعدما وصلت سيارة سوداء قبل أيام، حمّلت صناديق من القنصلية إليه، بحسب تسجيلات الكاميرات الخارجية. ورغم إعلان الرياض موافقتها على السماح للسلطات التركية بالبحث في ممثليتها في إسطنبول، لكن تلك الموافقة اقتصرت، بحسب صحيفة «صباح» التركية، على إجراء «بصري» سطحي فقط، تماماً كما سمحت من قبل، لصحافيي وكالة «رويترز» بالتجوال والتصوير، الأمر الذي رفضه الجانب التركي، الذي يُريد تفتيش المبنى باستخدام مادة «لومينول»، وهي مادة كيميائية تسمح باكتشاف آثار الدم، وتستعمل في مجال الطب الشرعي وعلم الجنايات، لكشف آثار الدماء الخفيفة غير الظاهرة للعلن، فيما تؤكد الشرطة التركية أنها تعتقد، استناداً إلى تحقيقاتها الأولية، أن خاشقجي قتل داخل القنصلية من قبل فريق سعودي أُرسِل خصيصاً إلى إسطنبول.
قضية خاشقجي باتت عقبة ابن سلمان الثانية في طريق «رؤية 2030»


ولم تتعاون الرياض مع السلطات التركية بتسليمها تسجيلات الكاميرات الداخلية، منذ دخول خاشقجي إلى القنصلية، بالزعم أنها «تصور ولا تسجل»، كما قال أخيراً سفيرها لدى واشنطن، خالد بن سلمان، الأمر الذي لم يُقنع المسؤولين الأتراك أو الأميركيين، فيما أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أول من أمس، أن هذه الأنظمة «قادرة على التقاط أي عصفور يطير أو ذبابة تخرج من هناك». لكن في الوقت نفسه، ثمة تناقض في المطالبة التركية بتلك التسجيلات، أو مطالبة الرئيس أردوغان الرياض بـ«إثبات» قولها إن خاشقجي خرج من القنصلية سالماً، في ضوء تقارير تؤكد أن سلطات أنقرة أبلغت واشنطن أنها تمتلك «تسجيلات صوتية وفيديو»، تُظهر كيف جرى «استجواب وتعذيب» خاشقجي في قنصلية بلاده قبل «مقتله»، بحسب ما كشفت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، ما يثير الشكوك حول تلك التقارير، والغاية من وراء تسريبها، خصوصاً أن مسؤولين أتراكاً رفضوا تأكيد صحتها أو نفيها.

«رؤية 2030» تهتز
اقتصادياً، تتسع رقعة تداعيات القضية لتطاول طموحات ولي العهد، محمد بن سلمان «الإصلاحية»، رغم عدم اتخاذ الدول الغربية الحليفة أي إجراءات ضد الرياض، وتأكيد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أنه لا يريد وقف الاستثمارات السعودية في بلاده، وسط الجدل المثار حول كيفية وجوب التعاطي مع الرياض إذا ثبت تورطها باغتيال خاشقجي. لكن في المقابل، أعلنت مؤسسات ومستثمرون كبار وصحافيون، مقاطعة الرياض، ما ترك مشاريع كبرى عرضة للتعثر، كان يعول عليها ابن سلمان في تحقيق رؤيته الاقتصادية، كمشروع «نيوم»، المدينة الاقتصادية التي رصد لها نصف تريليون دولار، إذ قاطع كل من وزير الطاقة الأميركي السابق، إرنست مونيز، والمستثمران تيم براون، وسام ألتمان، أدوارهم الاستشارية فيه، ما يجعله على سكة مشاريع بناء مدن صناعية سابقة متعثرة، كمنطقة الملك عبد الله في الرياض، التي بدأ العمل بها في عام 2006، لكن محور بناء 73 مبنى لم ينته حتى الآن.
تبدو قضية جمال خاشقجي، أيضاً، عقبة ثانية في طريق ابن سلمان لجذب استثمارات أجنبية ومحلية، كأحد أهم أعمدة «رؤية 2030» التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد، بعد حملة بدأها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ولم تنته حتى الآن، ضد أمراء ورجال أعمال وصحافيين، أثارت مخاوف لدى المستثمرين من دخول المملكة. إذ أعلنت عشرات الشركات والشخصيات المرموقة، أمس، مقاطعتها «مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض، المزمع أن يبدأ في الـ 23 هذا الشهر، ما يشكل ضربة كبيرة لـ«صندوق الاستثمارات العامة» (سيادي)، الذي يستضيف المؤتمر. ومن بين الشركات، شبكتا «سي أن بي سي» و«بلومبرغ»، اللتان لهما دور كبير في المؤتمر، وصحيفتا «فايننشال تايمز» و«نيويورك تايمز»، وكذلك مراسلون ومحررون من «ذي إيكونوميست»، رغم أن المؤتمر يعتمد كثيراً على صحافيين لإدارة جلساته الرئيسية، بالإضافة إلى مستثمرين كبار، كالملياردير ستيف كيس، والرئيس التنفيذي لشركة «أوبر»، دارا خسروشاهي. والضربة الثانية للصندوق السيادي، تمثلت بإعلان شركات ومستثمرين كبار آخرين، أمس، إلغاء تعاقداتهم مع السعودية، أو وقف محادثاتهم بشأن استثمارات أو مشروعات محتملة، ريثما يُكشَف عن خاشقجي، مثل شركة العلاقات العامة في واشنطن «هاربر غروب»، و«فيرجن غروب»، التي كانت تجري محادثات مع صندوق الاستثمارات العامة، بشأن استثمارات مزمعة بقيمة مليار دولار.