تشخص الأنظار إلى التفاصيل التي سيدلي بها اليوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بشأن جريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. تفاصيل تحدد بوصلة الاتهام باتجاه المستويات العليا في المملكة السعودية، وبالتحديد ولي عهد المملكة محمد بن سلمان، وتقدم أدلة دامغة على أنه صاحب القرار بإصدار الأوامر. الاحتمال الثاني أن أردوغان سيقترب من الرواية السعودية ويتجه إلى عقد صفقة مع الجانب السعودي برعاية أميركية. نجحت تركيا في تحويل قضية اختفاء خاشقجي، ثم إعلان مقتله، إلى قضية رأي عام عالمي، من خلال إدارة متقنة أحدثت ضرراً كبيراً في سمعة الجانب السعودي وقوضت علاقاتها الخارجية، ولا سيما مع الغرب. وكان واضحاً منذ بداية الأزمة، من خلال التسريبات التي سمحت القيادة التركية بنشرها، وهي تسريبات مدروسة بعناية، أن الهدف منها يتعدى مسألة تحصين السيادة، لكون الجريمة قد وقعت على الأراضي التركية، وتتخطى كذلك الثأر للإهانة التي تعرضت لها منظومة الأمن التركي، من خلال الاستباحة الأمنية الفجة لمجموعة الـ 15 التي قدمت لتنفيذ مهمة قتل خاشقجي في قنصيلة الرياض في إسطنبول. لم يغب عن أنقرة خلال العشرين يوماً الماضية من عمر الأزمة أن المكانة السياسية والدينية للمملكة تدمّر، وكذلك صدارتها للعالم الاسلامي تتراجع إلى الحضيض. بل من البداهة القول إن الإدارة التركية للأزمة تعمدت، ولا تزال، ضرب تلك المكانة التي حازتها المملكة منذ عقود، وذلك من دون أن تخوض مواجهة مباشرة مع الرياض، بعد أن صنعت رأياً عاماً دولياً ألزم الغرب بالضغط على حليفتهم التاريخية للاعتراف بالجريمة.
لم يعد مهماً إن كان أردوغان سيربط بين ابن سلمان وفرقة الإعدام أو لا


وعلى ذلك، استفاد أردوغان من فرصة الانقسام الأميركي العمودي حول إدارة ترامب لسياسات واشنطن الداخلية والخارجية، الأمر الذي ساهم في إخراج ترامب من التبني الكامل لمحمد بن سلمان إلى التذبذب والتردد بين الاستمرار والرغبة في بقائه حليفاً، أو رفع الغطاء عنه تحت وطأة ضغط الرأي العام الأميركي، الذي بات ينظر إلى الرجل على أنه يشكل عبئاً على الولايات المتحدة، أو على الأقل حليفاً رديئاً. ولقد أفرزت تبعات أزمة خاشقجي واقعاً مختلفاً عمّا كان عليه الحال سابقاً، بات فيه ابن سلمان، كولي للعهد أو كرجل أميركا الأول في السعودية والإقليم، مهزوزاً وهشاً. وانقلبت مكانته من مصلح حداثي إلى جزار فظيع، واقترن اسمه بالسخرية والاستهزاء، ولم يعد بإمكانه مهما حاول محو تلك الصورة السيئة التي ساهم الأتراك في رسمها داخل أذهان الرأي العام العالمي. فلم يعد مهماً إن كان أردوغان سيربط بين ابن سلمان وفرقة الإعدام، أو إبقاء الجريمة في إطار جنائي فقط. وإن كان المرجح أن أردوغان سيعمد إلى الربط المباشر بين فرقة الإعدام وابن سلمان، إذ لم يكن عبثاً التسريب الصحافي، أمس، لخبر التواصل الهاتفي المتكرر بين قائد مجموعة الإعدام ماهر المطرب، ومدير مكتب ابن سلمان، بدر العساكر، بعد تنفيذ الجريمة. تراجع أهمية الربط من عدمه عائد إلى الأحداث التي تجاوزت دور ابن سلمان على رأس الهرم السعودي إلى جانب والده سلمان أو كمرشح لتولي العرش السعودي. ولم يعد ممكناً الاستمرار بالرجل على رأس السلطة وهو مكبَّل بكمٍّ هائل من القضايا العالقة والشائكة التي تغرق النظام وتحد من حركته وقدرته على المناورة، فضلاً عن التوقف أو التراجع عن السياسات الخاطئة القائمة حالياً على الصعيدين الداخلي الخارجي، وما يعنيه ذلك من فقدان للهيبة وتحمّل للمسؤوليات الجسام عن الأضرار التي لحقت بالغير جراء تلك السياسات.
سيوحي أردوغان بحرصه على المملكة ودورها ومكانتها وعلى إقامة أفضل العلاقات معها، وهذا شيء طبيعي، لكن الرجل لن يزهد في موقعه (سيرته تدل على ذلك) وفكرة حلم ريادة تركيا للعالم الإسلامي، وتقديم نظامه كنموذج إسلامي لتعامل الغرب معه تدغدغ أحلامه. والفرصة مواتية جداً، وهو في الأصل لا يخفي تقديم نفسه ونظامه لريادة العالم الإسلامي، وعمل ويعمل على أن تكون أنقرة القبلة السياسية لـ«الإخوان المسلمين» الذين وجدوا في جريمة مقتل خاشقجي ضالتهم، فأحسنوا الاستفادة من الفرصة وانقضوا على النظام السعودي ووجهوا إليه ضربات موجعة ومؤلمة. سيسعى أردوغان إلى إعادة ما انقطع مع الإدارة الأميركية، وتقديم بلاده بديلاً يعوّض عن الخسارة الناتجة من تراجع الدور السعودي كحليف قوي لواشنطن، وهو يستطيع فعل ذلك، وإن لم يكن هدف الأتراك أن يحلوا مكان السعودية بالكامل، ولا هي تملك الإمكانية لذلك. وستبقى الرياض حليف واشنطن بالأصالة عن نفسها بما تملك من امتيازات ليس بمقدور الأتراك ولا غيرهم توفيرها، وهي الثروة النفطية، ما يعني الغرب وموضع طمعه بالمملكة التي أعياها المرض وأنهكها نهش الأصدقاء بها قبل الأعداء، سواء بقي محمد بن سلمان أو ألزم بالخروج (وإن كان خروجه في الوقت الراهن أمراً مستبعداً). ومن المرجَّح أيضاً أن يبقى الصراع حول قضية خاشقجي مستمراً في المدى المنظور، من هنا سيولي الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، الاهتمام بالثروة النفطية، وستشهد المرحلة المقبلة نشاطاً واسعاً لتحييد النفط عن الصراعات القائمة والقادمة.