زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات، وهي الأولى للخليج، إعادة الاعتبار إلى دور القيم الدينية والتسامح ولا سيما حوار الأديان. شهد العالم تجارب متنوعة للتعايش والتشارك واللقاء بين الأديان. وفي لبنان بشكل خاص، عرفنا صيغاً متعددة وأشكالاً مبتكرة وجمعيات ومنتديات ومؤتمرات لا تحصى حول حوار الأديان ومشتقاته. وفي السنوات الأخيرة شنّ الإرهاب حرباً عالمية ثالثة على الحضارة ليُدمّر المدنّية والإنسان معاً. ومن أساليب مواجهتها لجأ البعض إلى تجديد الدعوة للحوار المسيحي – الإسلامي، فنظم نشاطات وأطلق نداءات وأصدر بيانات تبشّر بالخلاص من الكراهية والبغضاء وإلغاء الآخر من خلال الدعوات إلى لقاء الأديان وحقوق الإنسان والسلم الأهلي وغيرها.
تضجّ وسائل الإعلام والمنابر بمقالات وخطب ومداخلات تكرّر مسلّمات بديهية سبق وعرجت عليها مختلف المناسبات المشابهة. لكن أمام التحديات الوجودية التي نشهدها، أصبح لا بدّ من إعادة النظر بهذه المفاهيم من أجل إعطائها بُعداً عملياً وجديداً يتلاءم مع المعركة التي تخوضها الإنسانية ضدّ إلغاء القيم والإنسان.
لذلك أسجلّ هنا بعض الملاحظات والاقتراحات من أجل الإضاءة والنقاش:
1 – فكرة الحوار الإسلامي – المسيحي استُنفذت، بعد أن استُهلكت، لما رافقها من تكاذب مشترك ومسايرة ومواربة، ولكثرة المؤتمرات والندوات التي عملت لها، ولم تصل إلى حلول عملية إجرائية، بل اكتفت بنوع من الاجتزاء والتراضي. ولم تتمكن حتى الآن من إنتاج كتاب موحد يُدرّس الأديان للطلاب في مستويات مختلفة من أجل تكوين ثقافة دينية مشتركة.
التجارب الحوارية الإسلامية – المسيحية حتى الآن فشلت، ولم يعد لها أيّ جدوى لأنّ المطلوب اليوم العمل سوية لبناء دولة المواطنة وتعزيز ثقافة التسامح والمحبة والاعتراف بالاختلاف والحق في الحياة ونشر الوعي العلمي والمدني لمواجهة إرث الكراهية والعنصرية والتكفير والإرهاب.
2 – كثر الكلام في هذه الأيام عن الشراكة الوطنية، خاصّة مع ولادة الحكومة الجديدة، وما رافقها من تغنٍّ بشعارات الوحدة الوطنية والتآخي ولعن الطائفية، فهل هذا كافٍ من أجل بناء مواطن جديد قادر على مواجهة الكراهية والتعصب والقتل؟ أم نحن بحاجة إلى نضال جدّي من أجل بناء نظام جديد قائم على أساس المواطنة، والعمل من أجل دولة مدنية قانونية علمية تضمن الحقوق والواجبات، وتحقق الديمقراطية التي تُجسد المساواة والعدالة الاجتماعية.
مهما كانت الآراء والتوجهات، لم يتوصّل بعد المتحاورون بين الأديان إلى مفهوم مشترك لدولة نحيا فيها بكرامة، خاصةً أننا نشهد أمام أعيننا انهيار الأنظمة والدول لتسود مكانها القبلية والبربرية والفتن وانهيار القيم. الضمانة الوحيدة لنا جميعاً هي دولة القانون والعدالة، لأن أنظمة الفساد والاستبداد تخلق الأجواء المؤاتية لانتشار الفكر الإلغائيّ.
3 – إن مواجهة التيارات التي تستغلّ الدين لأغراض سلطوية وسياسية ونفعية لا يمكن أن تتم فعلياً إلا بإصلاح ديني يواجه الخرافات والانحرافات والتأويلات المشوّهة والاجتهادات المغرضة التي حوّلت الدين إلى وسيلة لبلوغ أهداف فئوية. لذلك رجال الدين أمام خيارين: إما التدخّل بالعمل السياسي والالتهاء بالصراعات على السلطة، وإما العمل أولاً على نشر الوعي الديني الحقيقي وتجسيد القيم التي يدعون إليها.
4 – يعمل العديد من الجمعيات ويفاخر بالتعاون مع المؤسسات والمنظّمات الدولية التي تموّل أنشطةً في مجال حوار الأديان ومشتقاته دون تحديد هويتها وأغراضها ومضمونها، مع العلم أن البعض منها مشبوه وله أهداف خاصة مناقضة للحقوق والاستقلال والهوية.
5 – فكرة حقوق الإنسان بحاجة إلى شرح وتوضيح، لأنها أحياناً تُغيّب حقوق الشعوب بالاستقلال والهوية والتقدم. كما إننا نعيش في مرحلة نحن بأمسّ الحاجة فيها إلى الدفاع عن الحق في الحياة لمواجهة تيارات تُبرّر القتل المجاني وإلغاء الآخر لمجرّد أنه مختلف عنها. وفي هذا المجال تتحمّل المسؤلية الكبرى الأنظمة الرأسمالية المتوحشة التي تهدد البيئة والإنسان بالفناء بسبب ما تفرزه من تلوّث وفساد وحروب وتفاوت طبقي يؤدّي إلى الجهل والفقر والجريمة المنظّمة وتعميق الكراهية والعنصرية داخل الدول وبين البشر.
6 – لكلّ مذهب وطائفة وجماعة، جمعية أو مؤسسة خاصة بها مقتصرة على أبناء ملّتها، تأسر فيها أتباعها وتحولهم إلى مساجين في معتقل أو كانتون، وهكذا يتم التراشق بين هذه الكيانات (المعتقلات) بالرصاص والاتهامات، وأحياناً بالحوار والجمل المعسولة، لكنها تبقى متاريس في مواجهة متاريس أخرى.
لم يتوصّل المتحاورون بين الأديان إلى مفهوم مشترك لدولة نحيا فيها بكرامة


فإذا كانت هذه الجهات جدّية، لماذا لا يترجم المؤمنون بالحوار وحقوق الإنسان نداءاتهم وشعاراتهم إلى إطار مشترك يجتمع فيه جميع الذين يلتزمون به، على اختلاف مللهم ومذاهبهم ليعملوا معاً من أجل خير الإنسان وتحقيق أهدافه من خلال العمل الميداني المشترك؟ وهكذا يتحول الحوار بين أديان متباغضة إلى حوار حياة بين مواطنين متساوين وأحرار يعملون معاً من أجل بناء نموذج جديد لحياة جديدة تجسّد المصالح المادية الواحدة والقيم الروحية المشتركة. هذا هو التحدي الفعلي، الذي يواجه المنتديات والجمعيات والمؤسسات التي تدعو إلى الحوار بين الأديان، بينما عملها يقتصر على لون طائفي معزول عن الآخرين. إنهم يعيشون حد بعض (بما تتضمن كلمة حد من حدود مواجهة وجدار فصل) ولا يحيون مع بعض كمواطنين متآخين من دون انفصال. إنهم في شركة معرضة للحل بدلاً من أن يكونوا في عائلة مستمرة رغم الخلافات العابرة بين الأخوة.
7 – الحوارات الدينية والبيانات والنداءات وما أكثرها لم تعد مجدية لمواجهة الإرهاب والكراهية والإلغاء والتكفير، في زمن يسير فيه العالم بسرعتين متعاكستين، من جهة تزايد الأصوليات الدينية، ومن جهة أخرى تزايد الحالات اللادينية مع انتشار العلم والمعرفة وكردة فعل على إرهاب يستغلّ الدين وخرافات جاهلة تتكئ على اجتهادات وفتاوى خارج الزمن. لذلك بات السؤال الملح، ما هو مستقبل القيم والأخلاق الدينية والحضارية في زمن يغرق فيه الإنسان بفردانية قتّالة وعبودية للاستهلاك؟ وهذه الأسئلة تعني الإنسان من أي دين كان.
الحاجة إلى الأديان كقيم روحية وحضارية، ضرورة منذ نشأة الإنسان لأن وجودها يجيب على تساؤلات وتطلعات يعيشها الفرد في مواجهة الطبيعة وما وراء الوجود. بالإضافة إلى الحاجة لمنح الإنسان شعوراً بالرضا والأمان وضبط عدوانيته يوم الحساب الرباني والذي استُبدل تدريجياً بالقوانين الوضعية والأخلاق الإنسانية، من أجل كبح النزوات السلبية والمدمّرة.
الممارسة الدينية في صراع بين اتجاهين: الروحانية والتوحش. وحتى تستمر المؤسسات الدينية على قيد الحياة، يجب العمل على نزع فتيل الدوغما لتصبح تيارات روحية تتجاوز الشكل التسلّطي السياسي للتنظيمات التيوقراطية السائدة. إننا نحلم بأن يكون مستقبل الأديان باتجاه الحب والرحمة حتى يصبح الدين أقل تحجّراً ووثنية وأكثر روحانية وإلا تتسع الهوة بينه وبين الحياة. موت المؤسسات الدينية كدوغما يفتح الأبواب أمام الحوار والتواصل. لذلك نحتاج إلى ثورة في الأديان تتجاوز الثورة على الدين، وذلك من أجل تفكيك الخطاب السائد الذي يعمل على تكريس الاستعباد والتسلط. وتبدأ من نقد المؤسسات الدينية وسلطتها التي أصبحت سجوناً تُكبل المؤمن بفكره وسلوكه، ومن أجل كشف التضخيم والأوهام، حتى يعود الدين إلى الإيمان دون الأساطير والخرافات، مما يفتح الباب أمام المشترك الروحي بين مختلف الأديان فتلتقي مع الفنون والآداب في مرحلة ما بعد الحداثة.
ثورة في المؤسسات الدينية
لمواجهة التطرف الديني لا بد من ثقافة دينية جديدة تؤمن بحق الاختلاف ومعرفة الآخر لفهم الذات، وتفضح خطورة استغلال الدين لإثارة الفتن وتدمير الحضارة وقتل الإنسان. وبرغم اتساع مساحات الجاهلية الجديدة، علينا أن نعمل من أجل الأمن الديني والسلم المجتمعي والارتقاء الإنساني بحوار الحياة وبالقيم والأخلاق وبالإنسان أولاً طريقاً للخلاص والتجلي والعرفان، بنعم الله.
يتنازع الدين اليوم صراع بقاء بين اتجاه المحبة والتسامح والعدل والغيرية واتجاه التعصب والتوحش والإلغاء والكراهية الذي شجع على الإرهاب والتكفير والتضليل.
نحن اليوم بحاجة إلى ثورة في المؤسسات الدينية، من أجل الإصلاح وتنقية الإيمان من الشوائب ليكون طريقاً إلى المحبة والرحمة والعطاء وبناء حياة جديدة قائمة على الترقي والعدالة وتجعل من القيم والأخلاق سلوكاً فعلياً ونمط حياة جديدة لتجسيد الأقوال بالأفعال. الدين في النهاية طريقٌ يُدلنا إلى الحقيقة ليحرر الله من مذاهب تتحول إلى سجن وقيد.
عودة إلى زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات: هل ستكون مناسبة لعودة الروح إلى حوار مسيحي إسلامي على قاعدة العمل من أجل الإنسان أولاً بالحد من حالات الفقر والجهل والكراهية؟ أم ستكون مناسبة عابرة تؤكد على إفلاس الحوار الديني ووصوله إلى طريق مسدود، خاصة وأن الكنيسة الكاثولكية سبق وقامت بعدة محاولات لإصلاح الكنائس الشرقية وخاصة المارونية ولم تفلح. مصداقية وفعالية الحوار بين الأديان تبدأ من جدية الإصلاح داخل المؤسسات الدينية من أجل تحريرها أولاً من التسييس والمنافع الخاصة فتتجه إلى الحوار مع الآخر من دون مخاوف ومن دون حسابات فئوية.
* كاتب لبناني