يطغى شعور عاطفي على أوساط قوى مسيحية علمانية وكهنوتية في لبنان، في التعامل مع زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات العربية المتحدة، كأول بابا يزور شبه الجزيرة العربية، ويحتفل بالقداس الإلهي فيها. لكن للسياسة مكانها أيضاً في التعامل مع الحدث البابوي كجزء من انفتاح دول الخليج العربي على المسيحيين، وعلى الفاتيكان، وإعطاء صورة نموذجية بقدر الإمكان عن الغاية من هذه الزيارة ومفاعيلها. من هنا ليس غريباً أن يتم التعامل معها من باب سياسي، أقله لجهة حلفاء دولة الإمارات والسعودية من خلفها.لا شك في أن الإمارات أدت دوراً ذكياً في التحضير لهذا الحدث، منذ تسليم الدعوة إلى البابا عام 2016 وصولاً إلى زيارة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان إلى الفاتيكان في العام نفسه، واختتام هذا المسار باستقبال البابا في حدث حشدت له وسائل إعلام دولية وعربية، وأمنت له موازنة «إعلانية وإعلامية» كبرى، من خلال التغطية غير المسبوقة، لحدث استثنائي.
لا يجادل أحد في أنه حدث استثنائي أن يحتفل البابا بالقداس في دولة الإمارات، وأن يتم التعامل معه في الشكل الذي جرى فيه. لكن الحدث الفعلي لم يكن القداس، طالما أن في الإمارات كنائس ويتم الاحتفال فيها بالقداديس. لأن الإمارات أرادت استثمار الزيارة في مكان آخر. فهي صبت جهدها منذ سنوات، على تقديم نفسها راعية للانفتاح على دول الغرب، وللحوار بين الأديان وتكريس تعاملها الانفتاحي مع المسيحيين منذ إنشاء أول كنيسة فيها في الستينات، وعلى ديانات أخرى. واللافت أكثر أن الأيام الأخيرة التي سبقت الزيارة شهدت استعادة إيجابية لدور المسيحيين في المنطقة، من خلال حملة سياسية وإعلامية عبر وسائل إعلام الإمارات والمقربة منها، وتسليط الضوء على أهمية الدور المسيحي في المنطقة منذ فجر الإسلام، وصولاً إلى مساهمتهم في إعمار الخليج، ودورهم في تفعيل القومية العربية، ومحافظتهم على اللغة العربية. وفي المقابل حشدت وسائل إعلام غربية للترويج للإمارات و«تسامحها» وبناء الكنائس وحياة المسيحيين فيها وهم طبعاً لا يحملون جنسيتها بل ينتمون في معظمهم إلى دول الشرق الأوسط وآسيا يعملون فيها منذ سنوات. وقد اتخذ هذا الجانب أحياناً صورة ترويجية مبالغاً فيها، كما هي حال الاحتفاليات السعودية بالمغنية الأميركية ماريا كاري أو الفنانات اللبنانيات.
لا شك في أن لكل من الفاتيكان والإمارات رؤية خاصة في تقديم هذا الحدث البابوي، إذ تقاطعت مصالحهما، في ترتيب زيارة بهذا الحجم. علماً أن البابا يستعد أيضاً لزيارة المغرب في آذار المقبل، كبلد إسلامي أفريقي عربي، بعد زيارة مصر وتركيا. زيارة البابا إلى أبو ظبي ليست زيارة رعوية، وليست زيارة حج. والأكيد أنها ليست زيارة تبشيرية، ولا موجهة للمسيحيين المقيمين في الخليج والإمارات، وإن كان من الطبيعي أن يشارك بعض هؤلاء في القداس. الزيارة محصورة بالحوار المسيحي الإسلامي، الذي تسعى دول الخليج إلى تقديم صورة عنه، خصوصاً نحو أوروبا في ضوء تصاعد الحركات اليمينية المتطرفة في دولها، وازدياد عناصر المواجهة مع الإسلام المتطرف. وزيارة البابا صبت في هذا الاتجاه، تماماً كتوقيعه وثيقة مع شيخ الأزهر كمرجعية السلطة الدينية السنية، في صورة لافتة تحمل دلالات سياسية متصلة بدور مصر وموقعها من المعادلة العربية والخليجية.
لكن استثمار الزيارة في المدى البعيد، هو الأهم، لأن الإمارات لها أيضاً حساباتها السياسية، علماً أن خطوة كهذه ليست معزولة عن استثمار حليفتها السعودية ودورهما في اليمن. وكان لافتاً أن البابا لم يقدر أن يتخطى ذكر حرب اليمن والعراق وسوريا. ومستقبل العلاقات المسيحية الإسلامية في منطقة تتطور فيها الصراعات، لا يمكن أن يختزل بوثيقة عن الحوار، ولا بأول زيارة للبطريرك الماروني إلى السعودية، على رغم كل ما أحاط بها.
الأكيد أن هناك اختلافاً بين الزيارتين، وإن كانتا انطلقتا نحو الهدف نفسه، لكن اختلاف شخصيتي البابا والبطريرك والغاية الحقيقية من الزيارتين، يرسمان تقاطعات كثيرة. إذ يأتي فرنسيس من عالم يسوعي متمكن من ملفات ومن ثقافة واسعة، ومن دول عايش فيها ديكتاتوريات واتهم بمحاباتها، ومن ثم سعيه إلى صورة أكثر عدالة إلى جانب الشعوب الفقيرة. وهو يسعى في زيارته العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، إلى توسيع آفاق الحوار بين الديانات، وتخفيف الشحن الطائفي، بما يمليه عليه موقعه البابوي، لا سيما أن لديه اهتمامات تختلف عن اهتمامات سلفيه بنديكتوس السادس عشر ويوحنا بولس الثاني. فيما تسعى الإمارات إلى تقديم نفسها صورة حديثة عن عالم إسلامي منفتح على الآخر، مع رسم حدود واضحة لكل الديانات فلا تتخطى الطوائف فيها حدوداً رسمتها بدقة.
يستخدم البابا في أحاديثه وعظاته كلمة الحرب العالمية الثالثة، منذ أن تولى حبريته، وهو لا ينفك يكررها، لأن في باله هاجس الإرهاب والتطرف الديني والصدام في أوروبا، حيث تتحول الأحداث فيها شاهداً أساسياً على تطورات تتجه نحو حرب محتملة يخشى منها، بعد تنامي القومية الأوروبية. وحديثه في منطقة الخليج عن هذه الحرب، تعني أولاً وآخراً المنطقة التي اتهمت أنها تصدر هذا الإرهاب، وتعني أوروبا التي يريد منها الانفتاح على الآخر، كما في موضوع النازحين السوريين. هذا الملف الذي خلق له متاعب أوروبية في نزعته التي يكررها - وتنفصل عن سياسات الدول ومصالحها واستراتيجيتها - لفتح الحدود أمام اللاجئين.
في خطبه يقول فرنسيس كلاماً كثيراً عن الحوار والانفتاح وحرية الأديان مشيداً بالسماح للمسيحيين بممارسة شعائرهم. لكنه أتى إلى منطقة، يتحول فيها المسيحيون أقليات،مع مجمل همومهم ومشاكلهم فتتحول زياراته سياسية الطابع أكثر منها راعوية، وزيارة أبو ظبي واحدة منها. وهناك دائماً صلة بين مصالح الدول والقضايا الإنسانية، والفاتيكان دولة كما الإمارات.