المحاضرة التي «ارتكبها» عادل الجبير، وزير الدولة السعودي للعلاقات الخارجية، أمام «معهد بروكغنز»، عن الشراكة الاستراتيجية الأميركية - السعودية «منذ ثمانية عقود» كما حرص على القول، لم تتضمّن الكشف عن أسرار يجهلها المتابعون الجدّيون لشؤون المنطقة، ومركزية هذه الشراكة في تاريخها المعاصر. الأمر نفسه ينطبق على الحوار الذي أجراه مع مجلس العلاقات الخارجية أمام نخبة من الباحثين والخبراء والمسؤولين السابقين الأميركيين. السؤال الحقيقي، بالنسبة إلى مَن يعرف أن التحالف الأميركي - السعودي تأسّس على قاعدة العداء المشترك لمشروع القومية العربية ولأيّ مشروعٍ استقلالي في المنطقة، هو عن مغزى إقرار مسؤول من الصف الأول في المملكة اليوم بجميع التهم التي وُجّهت إليها في العقود الماضية، والتي درج على إنكارها جميع من سبقه من مسؤوليها، وعن توقيت هذا الإقرار. سؤال المغزى والتوقيت نفسه يُطرح حول الكلام الذي تفوّه به مبارك المهدي، نائب رئيس الوزراء السوداني الأسبق، عقب لقاء رئيس «مجلس السيادة» الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان، رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، والذي كرّر فيه مزاعم غلاة المطبّعين العرب عن فوائد التعاون، إن لم يكن التحالف، مع إسرائيل. نحن هنا أيضاً أمام سابقة قيام مسؤول سياسي أسبق، لكنه يعبر عن موقف قسم من القيادة السودانية الحالية، بطرح مثل هذه الرؤية عن العلاقة مع إسرائيل، من دون ربطها بأيّ شروط تتعلق بما سُمّي مسار التسوية، كما اعتاد أن يفعل المطبّعون في المرحلة التاريخية المنصرمة. والحقيقة هي أن مواقف الجبير والبرهان وغيرهما من المسؤولين والخبراء والإعلاميين وحتى المواطنين العاديين، ومنهم المهرج السعودي الأخرق المتيّم بإسرائيل محمد السعود، تؤشّر جميعها على الانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة في الإقليم، إحدى سماتها تحالف علني أميركي - إسرائيلي - عربي، هو الهدف الفعلي الوحيد لـ«صفقة القرن»، وتقديمه من قِبَل أطرافه على أنه خشبة الخلاص الوحيدة لدول متداعية وشعوب منكوبة.

عن التوقيت
اعتبارات عديدة قد تسمح بتفسير كلام الجبير عن العلاقات الأميركية - السعودية، من بينها بداية العام الانتخابي في الولايات المتحدة، ورغبة حكام المملكة في التأكيد أن المصالح المشتركة هي أساس التحالف بين البلدين لا طبيعة الصلات الخاصة التي تجمعهم بدونالد ترامب وفريقه أو بالحزب الجمهوري على حساب الحزب الديمقراطي مثلاً. والجبير صادق في ذلك؛ فهذا التحالف كان الأول من نوعه بين الولايات المتحدة ودولة من المنطقة سنة 1945، أي قبل إقامة الكيان الصهيوني، وهو لم يتأثر بتغير الإدارات الأميركية، وبقي ثابتاً لثمانية عقود. يؤكد الجبير أنه «في الخمسينيات والستينيات، عملنا سويّاً لهزيمة راديكالية ناصر وغيره من الأنظمة الثورية في الشرق الأوسط. في السبعينيات والثمانينيات، عملنا سويّاً أيضاً لدحر نفوذ الاتحاد السوفياتي، وتمكّنا من إخراج مصر من المعسكر السوفياتي وإدخالها في ذلك الغربي. وقمنا بالشيء نفسه مع الصومال في السبعينيات. وقد صدّينا كذلك الاندفاعة السوفياتية نحو الخليج، وتعاونا في أفغانستان وانتصرنا». النقطة الأولى المهمة في هذه الاعترافات المتأخرة هي أن السعودية كانت شريكاً كاملاً في الحرب على المشروع الناصري، الذي لعبت إسرائيل الدور المركزي في توجيه الضربة القاضية له عام 1967. وقد شجّع هذا الواقع البعض على اعتبار هذه الحرب نقطة التحول في التحالف الأميركي - الإسرائيلي، وانتقاله إلى مستوى التحالف الاستراتيجي. عملت السعودية منذ الستينيات، إذن، مع الولايات المتحدة وإسرائيل لهزيمة القومية العربية وأنظمتها. وعلى ضوء هذا الاعتراف، تصبح مشاركة الملك فيصل في قمة «اللاءات الثلاث» في الخرطوم، ومفردة التضامن العربي التي كثر استخدامها لعقود، مجرّد رياء وذرّ للرماد في العيون. التحالف الاستراتيجي الثابت هو ذلك المستمر منذ 8 عقود.
تقطع السعودية مع مرحلة اللغة المزدوجة السابقة، وتجهر بتموضعها الفعلي


النقطة الثانية هي تلك المتعلقة بنقل مصر إلى المعسكر الغربي في السبعينيات. أهمّ خطوة في سياق هذا الانتقال كانت معاهدة «كامب ديفيد». عارضتها السعودية رسمياً، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، لكن الجبير يكشف لنا عن مدى تناقض سياستها المعلنة مع تلك المتّبعة فعلاً. صحيح أنه ضَمّن مداخلته أمام مجلس العلاقات الخارجية درجة معينة من النقد للمسؤولين الأميركيين الذين يأخذون على المملكة استمرارها في الحرب على اليمن، لكن أهمّ ما ورد فيها هو استعراض لمدى اتساع دائرة التعاون السعودي - الأميركي، التي تبدأ باحتواء إيران، مروراً بردع «حزب الله» وبتحقيق السلام بين الإسرائيليين والعرب، وصولاً إلى «موازنة أسواق البترول والأسواق المالية العالمية». غاية الجبير، الذي يتوجّه إلى النخب الأميركية ولكنه يخاطب أيضاً قطاعات من النخب السعودية خاصة تلك الشابة، من الصراحة المفرطة، هي القطع مع مرحلة اللغة المزدوجة السابقة، والإجهار بتموضع المملكة الفعلي إلى جانب التحالف الأميركي - الإسرائيلي في مواجهة محور المقاومة ومكوّناته. الجيل الجديد والمعولم، الذي يدير الدفّة في المملكة اليوم، يريد التخفّف تماماً من «أعباء» ما أمْلَته في «زمن آخر» فكرة الانتماء إلى أمة واحدة، والجهر بالانتماء إلى المعسكر «الذي تجمعنا به مصالح مشتركة».
خطاب مبارك المهدي محكوم بالمنطق نفسه. علينا أن نعطي الأولوية لمصالحنا قبل أيّ اعتبار آخر، وبما أن الفلسطينيين قد «طبّعوا» علاقاتهم مع إسرائيل منذ «اتفاق أوسلو»، علينا بدورنا أن نُطبّع معها لأنها الوحيدة القادرة «على منح السودان شهادة براءة من الإرهاب»، ولأن العلاقات معها ستعود علينا بمكاسب وفوائد جمّة. يقول المهدي إن «السودان والعالم العربي بحاجة إلى التقانة الإسرائيلية المتطورة... واردات السودان إلى الآن 11 مليار دولار، وبالتعاون مع إسرائيل في التقانة الزراعية، التي ساعدت مصر وطوّرت إنتاجها من الفاكهة والخضر، يمكن أن يحقق السودان هذا الهدف». يتشابه هذا الخطاب مع ذلك الذي يروّجه مطبّعون في المغرب يدعون إلى فتح سفارة لإسرائيل مقابل الحصول على دعمها لإقناع إدارة ترامب بالاعتراف بمغربية الصحراء. لم يَعد المطبّعون يربطون بين إقامة علاقات مع إسرائيل وتقدّم مسار التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لم يعد مصير الفلسطينيين مطروحاً على بساط البحث بالنسبة إليهم. باسم مصالح بلدانهم، التي تشهد أزمات وجودية في بعض الحالات، كما هو حال السودان مثلاً، يقدّمون التعاون مع إسرائيل، ومن خلالها مع الولايات المتحدة، باعتباره الخيار الوحيد المتاح للخروج من هذه الأزمات. ولا شك في أن عجز القوى الوطنية، بتياراتها المختلفة المعارضة لخياراتهم، عن بلورة بديل والتصدّي المباشر والعنيف للمطبّعين يشجّعهم على المضيّ قُدماً في مساعيهم.