شهدت القنوات الدبلوماسية الخليجية خلال الأسبوعين الماضيين، نشاطاً غير اعتيادي، تكلّل بزيارات مكثّفة لعدد من وزراء الخارجية حاملين رسائلَ بقيت مضامينها خارج إطار التداول الإعلامي، وإن أوحت بوجود «مبادرة» جديدة تهدف إلى احتواء نيران مستجدّة في الأزمة الخليجية.الشرارة المُعلنة في هذه المبادرة أتت من سلطنة عمان، حينما حطّ وزير خارجيتها يوسف بن علوي، قبل أسبوع في الكويت، وسلّم رسالة خطّية من السلطان هيثم بن طارق، إلى أمير الكويت جابر الأحمد الصباح.
وبعد ثلاثة أيام، وصل بن علوي إلى الدوحة، حيث التقى أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، ونظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وأوصل رسالة أخرى من السلطان هيثم.
لم تكد جولة بن علوي تنتهي، حتى وصل نظيره القطري إلى الكويت، برسالة من الأمير تميم، سلّمها إلى وزير الخارجية الكويتي صباح خالد الحمد الصباح. وأكمل محمد آل ثاني، رحلته برسالة ثانية في اتجاه عمان، حيث استقبله سلطانها أمس.

مبادرة سلطانية أولى
قد يكون هذا النشاط العماني، هو الأول من نوعه للسلطان الجديد، بن طارق، الذي دارت حين تنصيبه أسئلة عديدة حول كيفية تعامله المرتقب مع إرث عمان في الوساطة وتيسير المحادثات.
ووفق ما تقوله أوساط متابعة للخلاف الخليجي ــ الخليجي، فإن تحرك عمان في اتجاه الكويت أولاً، يراعي دور الأخيرة المركزي في الوساطة بين قطر والسعودية. وهو يعكس حرصاً من بن طارق، على دفع المحادثات من دون تخطّي الكويت أو تحييدها، والمخاطرة بإشعال فتيل أزمة جديدة.
وتشير تلك الأوساط إلى أن وزير خارجية الكويت يلعب دوراً مركزياً، في الوقت الحالي، لإعادة قنوات التفاوض بين الدوحة والرياض، بعد انقطاع دام أشهراً طويلة. وينسّق سلطان عمان المبادرة الجديدة على أرفع مستوى، فهو أجرى اتصالات، أول من أمس، مع كل من ملك البحرين وأميري قطر والكويت والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، بعد يومين على مكالمة جمعته ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.

إطفاء نيران مستجدّة
أما توقيت المبادرة التي ما زالت تفاصيلها حبيسة الرسائل السلطانية والأميرية، فهو يرتبط بتعمّق الخلاف «السعودي ــ الإماراتي» ــ القطري، منذ مطلع العام الحالي، ليصل إلى مرحلة خروج تسريبات عن مصادر كويتية، تقول إن الدوحة تستعد لإعلان انسحابها من مجلس التعاون الخليجي، من دون تأكيد رسمي.
لم تنف قطر ما أشيع عن نيتها الانسحاب من المجلس، ولكن وزير خارجيتها قال إنها «تؤمن بالمجلس، وبوحدته، ولكن شرط احترام سيادة جميع الدول الأعضاء (...) ومبدأ المساواة بينها»، قبل أن يدعو إلى «إعادة هيكلة» خاصة بالمجلس.
وقال الوزير آل ثاني، خلال مشاركته في ندوة لمعهد السياسات الخارجية في جامعة «جونز هوبكنز» الأميركية، إن «قطر منفتحة للنقاش ونريد أن نتأكد من أن أي اتفاقيات مستقبلية بينها والدول الأخرى في مجلس التعاون الخليجي ستضمن تقدماً إلى الأمام لحمايتنا في حالة أي نزاع مستقبلي».
النقد القطري لدور المجلس الحالي وشكله ليس جديداً، بل ظهر خلال مناسبات عدّة؛ وكان السبب المباشر في تصاعد لهجة الدوحة أخيراً، هو ما جرى في شباط الماضي، حين منعت السعودية وزيرة الصحة القطرية، حنان الكواري، من الدخول إلى أراضيها لحضور اجتماع دعت إليه الأمانة العامة لمجلس التعاون، بهدف تنسيق الاستجابة لفيروس «كورونا».
ودعا بيان لوزارة الخارجية حينها، السعودية إلى «الاضطلاع بدورها كدولة المقر لمجلس التعاون الخليجي بحياد ومهنية»، مضيفاً أن «المملكة لطالما ادعت بأن منظومة مجلس التعاون الخليجي، وخاصة اللجان التقنية، فعّالة ولم تتأثر بالأزمة الخليجية، لنتفاجأ بها وقد سيّست قطاعاً إنسانياً يتطلب الحكمة وضرورة إبعاده عن الخلافات السياسية».

...واشتعال نيران أخرى
كان لافتاً أن جولة الاتصالات السلطانية العمانية استثنت الإمارات، لأسباب غير معلنة؛ وكرّس ذلك توتر العلاقة بين الطرفين، والذي يبدو أنه تعمّق مع وصول بن طارق إلى كرسي السلطان.
وتوازياً مع انطلاق «مبادرة الصلح» الجديدة، انطلقت موجة خلاف واسعة بين السعودية وعمان على وسائل الإعلام، بعد انتشار تسجيل، يزعم ناشروه أنه لوزير الخارجية العماني وهو يخطط (سابقاً) مع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وأطراف أخرى بينها قطر وإيران، لتقسيم المملكة السعودية.

كان لافتاً أن جولة الاتصالات السلطانية العمانية استثنت الإمارات، لأسباب غير معلنة (وكالة الأنباء العمانية)


وبمعزل عن صحّة التسجيل التي شككت فيها تحليلات غير رسمية من الدولتين، انتشرت موجة تخوين متبادلة بين عدد كبير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، في حين ذهب ناشطون عمانيون إلى اتهام أبو ظبي بترويج تلك «الفتن». وأفضى ذلك إلى وقوع «اشتباكات افتراضية» على جبهة مسقط ــ أبو ظبي، بين متابعين من الطرفين.
واعتبر ناشطون عمانيون أن اتصال السلطان بالملك السعودي، كان رسالة سياسية مفادها أن عمان لم تغيّر موقفها تجاه «الشقيقة الكبرى، السعودية» على حد تعبيرهم.

أفق المبادرة
ينتظر أن ينكشف خلال الأسابيع المقبلة، عمق المساعي العمانية والكويتية ومداها المفترض، والذي يمكن أن يتراوح بين محاولة حلحلة الأزمة المعمّرة من أصلها، أو الاكتفاء بوأد الإشاعات التي سادت حول انسحاب قطر وتهديد وحدة مجلس التعاون.
ويمكن القول إن التوتر بين محور قطر والمحور الخليجي المقابل، بات اليوم على أشدّه، ليس داخل الملف الخليجي، بل في الإقليم وعلى المستوى الدولي. فمن سوريا ومصر إلى السودان وليبيا واليمن، ومروراً بكل البلدان العربية، يحشد الطرفان إمكاناتهما لتقويض نفوذ الآخر وضرب حلفائه المحليين.
وسبب انخراط قطر بشكل أكبر في التعاون مع تركيا، بتوسّع الفالق بينها وبين السعودية والإمارات، ففي سوريا وليبيا، تموّل قطر الخيارات والخطط التركية من دون سقف.
وحينما تعاظم الضغط الاقتصادي على أنقرة، أخيراً بعد أزمة «كورونا»، أرسلت الإمارة عشرة مليارات دولار إلى البنك المركزي التركي، ضمن اتفاق مبادلة عملة بين الطرفين (زاد حجم الاتفاق من خمسة إلى خمسة عشر مليار دولار). وذلك إلى جانب حديث أوساط إعلامية عن وجود خطط مشتركة للطرفين في ملف غاز المتوسط، وفي ليبيا، قد تدخل حيّز التنفيذ خلال المستقبل القريب.
كل ما سبق قد يشير إلى أن المبادرة الحالية قد تكتفي بعودة التوتر إلى حاله «ما قبل كورونا»، والعمل على تفعيل قنوات التواصل التي انقطعت عقب القمة الأخيرة لمجلس التعاون.