ثلاث سنوات على تولّي محمد بن سلمان ولاية العهد في السعودية في 21 حزيران/ يونيو 2017. ثلاث سنوات كانت كفيلة بكشف هشاشة الأسس التي بُنيت عليها طموحات الأمير الشاب. في عام 2020، الذي يُعدّ مفصلياً في مسار «رؤية 2030»، يميل كثيرون إلى القول إن «الرؤية» أضحت في حكم الميتة، علماً بأنها، منذ إبصارها النور، بدت فاقدة لعناصر الحياة. لكن «مفاجأة كورونا» وحماقة حرب أسعار النفط بيّنتا، بما لم يفعل أيّ ظرف آخر، حقيقة الطابع الخيالي لخطط ابن سلمان. قبيل عقد على الموعد المحدّد لولادة «السعودية الجديدة»، لا تزال الأرقام على حالها إن لم تكن أسوأ (البطالة، عجز الموازنة، الثروة السيادية،...)، فيما خطط تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية تنتقل من حائط مسدود إلى آخر. يحدث كلّ ذلك فيما لا يزال ولي العهد مسكوناً بهاجس الانقلاب عليه من الداخل، ومحاصَراً بمأزق يمني أضحى الفكاك منه أكثر صعوبة وأكبر كلفة.«إذا حقّقنا 100%، هذا رائع... وإذا حقّقنا 50% رائع أيضاً! أفضل من عدم تحقيق أيّ شيء. لذلك، لا توجد مشكلة في رفع سقف طموحاتنا». ربّما كان محمد بن سلمان مفرطاً في التفاؤل في مقابلته تلك مع وكالة «بلومبرغ» أواخر عام 2018. بعد مرور ثلاث سنوات على تولّيه ولاية العهد، تبدو «طموحاته» أبعد ما تكون عن التحقّق، في ظلّ الإخفاقات المتتالية التي وقعت فيها خططه، وصولاً إلى الأثر الكارثي الذي خلّفه عليها وباء «كورونا» وحرب أسعار النفط. إخفاقٌ يضاف إليه انعدام الاستقرار في البيئة الداخلية للحكم الجديد، وفشله في حسم أيّ من المعارك التي خاضها ولا يزال تباعاً.
في الشقّ الاقتصادي، يَظهر حجر الرحى في «رؤية 2030»، والمتمثل في «صندوق الاستثمارات العامة»، عاجزاً عن الدوران لصالح بلوغ أهداف «الرؤية». كان من المفترض أن يبلغ حجم الصندوق في هذا العام ما بين 600 و700 مليار دولار على طريق بلوغه في عام 2030 أكثر من تريليونَي دولار، لكن تعثّر العديد من الاستثمارات الخارجية التي انخرط فيها، وتباطؤ الصفقات التي خُطّط لاستحواذه على عائداتها، أبقيا قيمته ما بين 300 و400 مليار دولار.
ولعلّ أحد أبرز النماذج من ذلك التعثّر هو ما آل إليه استثماره بنحو 35 مليار دولار في صندوق «رؤية - سوفت بنك»، إذ تكبّد الصندوق الياباني خسائر سنوية (خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي) بقيمة 18 مليار دولار. وهي خسائر بدأت في أواخر عام 2019، وتضاعفت مع تفشّي وباء «كورونا». المفارقة أن تداعيات الوباء، الذي ولّد انكماشاً اقتصادياً عالمياً، لم تمنع السعودية من الاستثمار بمبالغ إضافية (قرابة 9.8 مليارات دولار) في شركات منكوبة، الأمر الذي لا تبدو عوائده مضمونة على الإطلاق، وفق ما يرى خبراء اقتصاديون.

خصخصة «درّة التاج» متعثرة
الضربة الثانية التي تلقّاها «صندوق الاستثمارات العامة» تمثّلت في تعرقل مشروع خصخصة «أرامكو». بعد تأجيل عملية الطرح العام الأوّلي غير مرّة، أملاً في بلوغ أسعار النفط محيط 80 دولاراً للبرميل بما يرفع قيمة الشركة إلى تريليوني دولار، عمدت المملكة في أواخر عام 2019 إلى طرح 1.5% فقط من أسهم «أرامكو» (بدلاً من 5%) في البورصة المحلّية، وهو ما عاد عليها بحوالى 25 مليار دولار. وإذ لا يزال مصير تلك العوائد مجهولاً (كان يفترض بحسب الخطة توجيهها إلى صندوق الاستثمارات العامة) وخصوصاً أن السعودية أعلنت - ضمن إجراءاتها التقشّفية الأخيرة - خفض اعتمادات «رؤية 2030» بـ26.6 مليار دولار، يبدو أن لا استكمال وشيكاً لعملية الطرح (إن لم تكن قد جُمّدت أصلاً) بعد التدهور الأخير في أسعار النفط، والذي هبط بسهم «أرامكو» في شهر آذار/ مارس الماضي إلى حدود 30 ريالاً سعودياً.
هذا الهبوط لم تسلم منه أيضاً شركة «سابك» للبتروكيماويات، والتي انخفضت قيمتها هي الأخرى بأكثر من 40%. لكن ذلك لم يمنع «أرامكو» من الإقدام، قبل أيام، على إتمام صفقة شراء 70% منها، بسعر يفوق بحوالى 20 مليار دولار قيمتها الحالية في السوق (69 مليار دولار)، مع مدّ جدول التسديد ثلاث سنوات. خطوةٌ تعكس استمرار مراهنة السعودية على عودة أسعار النفط إلى أيّامها الذهبية، وهو ما لا يبدو وارداً لدى الخبراء، الذين يعتقدون أيضاً أن خسارة المملكة محتومة في أيّ حرب أسعار مقبلة.

تفسّخ العقد الاجتماعي
قد يكون من أكثر المفارقات التي تبيّن مآل رؤية ابن سلمان هو تزامن الموعد المفترض لانطلاق «برنامج تعزيز الشخصية الوطنية» (أحد برامج الرؤية) في عام 2020، مع ركود اقتصادي حادّ شكّل القطاع الخاص أوّل وأكبر ضحاياه، ومع إجراءات تقشّفية صارمة دفعت بتطوير الاقتصاد إلى أسفل سلّم الأولويات. يمثّل البرنامج المذكور خطّة هندسة اجتماعية جديدة تستهدف تعزيز «روح المبادرة وحبّ العمل»، والتحفيز إلى «النجاح والتفاؤل». أهدافٌ يقاس مدى تحقّقها، بحسب الشروحات السعودية للبرنامج، بعدة مؤشرات لعلّ أبرزها اثنان: توفير الوظائف في القطاع الخاص وتنويع الإيرادات. وهما مؤشّران أساسيان ما فتئت السعودية تسجّل أسوأ أرقامها فيهما، إذ إن 70% من ميزانيتها لا يزال معتمداً على النفط، الذي يُتوقع أن يتسبّب انهيار أسعاره بارتفاع عجز موازنة العام الجاري، فيما ستُستخدم الأصول الاحتياطية (سُحب منها 51 مليار دولار خلال الربع الأول من سنة 2020) والسندات لتمويل الاحتياجات الأساسية للمواطنين بدلاً من المضيّ في ما سُمّيت «الإصلاحات» الاقتصادية.
رغم انكماش الاقتصاد العالمي، لا تزال السعودية تضع أموالها في شركات منكوبة


هكذا، تعود أسس العقد الاجتماعي في السعودية (الرفاهية مقابل الولاء) إلى الظهور مجدّداً، بعدما حاول الحكم السلماني النأي بالمملكة عنها بالترويج لصيغة قومية عمادها الاعتزاز بالهوية الوطنية والاستعداد للانخراط في العمل من أجلها. بيد أنه، عملياً، لم يستطع ابن سلمان إلا إشاعة نوع من «الشوفينية» بالاستفادة من حروبه الخارجية، فيما ظلّ تحقيق متطلّبات «النيوليبرالية السعودية» عسير التحقق، وما فشل مشروع «السعودة» (الذي أتى بمفعول عكسي تَمثّل في ركود الاقتصاد بفعل طرد العمالة الأجنبية) إلا خير دليل على ذلك. مكمن الخطورة في ما تقدّم هو بروز مهدّدات حقيقية للعقد الاجتماعي القديم من دون وجود بدائل، الأمر الذي قد ينذر بحدوث اضطرابات اجتماعية (يأتي على رأس تلك المهدّدات، التقشّف، الذي بدأته المملكة عام 2018، وضاعفته أخيراً برفع ضريبة القيمة المضافة ثلاثة أضعاف وإلغاء بدل غلاء المعيشة، واستكملته برفع أسعار البنزين).

لا أمان ولا استقرار
وصول مشاريع ولي العهد الاقتصادية إلى حائط مسدود يوازيه تضعضع في البنيان الذي أسّس له الملك، وأراد من خلاله تعبيد الطريق أمام نجله لبلوغ سدّة العرش. صحيح أن ابن سلمان تمكّن من خلال واقعة «الريتز كارلتون» من محاصرة أخصامه ومنافسيه، إلا أن عودته في آذار/ مارس الماضي إلى الزجّ باثنين من كبار الأمراء في السجن، هما أحمد بن عبد العزيز ومحمد بن نايف، أظهرت القلق الذي يعتريه من أن يستطيع هؤلاء تشكيل جبهة وازنة مضادّة له، وخصوصاً أن للأوّل نفوذاً داخل «هيئة البيعة»، وأن للثاني إرثاً في وزارة الداخلية.
وهو إرثٌ يبدو واضحاً أنه لا يزال يؤرّق ابن سلمان، وما مساعيه الحثيثة الحالية إلى استعادة اللواء السابق سعد الجبري، بأيّ ثمن، إلا صورة من ذلك الأرق، إذ أمر ولي العهد، أخيراً، باعتقال نجلَي الجبري وشقيقه في محاولة للضغط على الرجل من أجل العودة إلى المملكة من كندا التي يقيم فيها منذ عام 2017. ويقول السفير الأميركي السابق في اليمن، جيرالد فيرستين، في هذا الصدد، إن الجبري «تولّى الكثير من الملفات الحساسة خلال عمله في الأمن السعودي لعقود، وهو يمتلك كمّاً كبيراً من المعلومات، حتى أنه يعرف أماكن دفن الجثث في المملكة». ومن هنا، يُفهَم مكمن خشية ابن سلمان الذي كان أوّل ما استهدف في معركته ضدّ ابن عمّه، محمد بن نايف، أذرع الأخير في وزارة الداخلية، وفي مقدّمهم الجبري الذي أطيح به باكراً بعد صراع مع اللواء عبد العزيز الهويريني، رجل ابن سلمان في الوزارة، والذي سرعان ما أصبح رئيساً لجهاز أمن الدولة بأمر ملكي صدر عام 2017.
توضح قضية الجبري، مرّة أخرى، أنه على رغم التغييرات الجذرية التي أحدثها آل سلمان في هيكل السلطة، فإن المفاجآت لا تزال واردة، وهو ما يجعل صورة المستقبل ضبابية إلى حدّ كبير. أمّا ما يمكن أن يحدث فارقاً في المشهد فهو «متغيّر استثنائي يعيد رسم المسار السياسي للبلاد، ويفتح آفاقاً جديدة لعمليات تحوّل واسعة النطاق، تعيد تصويب خط سير الدولة، وتؤسس لمرحلة استقرار، ولكن وفق شروط أخرى»، بحسب ما يراه الباحث فؤاد إبراهيم في كتابه «مستقبل السعودية».

المأزق اليمني
«لدينا مشكلة اسمها اليمن». قالها محمد بن نايف يوماً ما، بحسب ما كشفته وثيقة للسفارة الأميركية في الرياض سرّبها موقع «ويكيليكس» في كانون الأول/ ديسمبر 2010. كان ابن نايف يشير بقوله المتقدّم إلى احتمال اتخاذ «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» من الأراضي اليمنية منطلقاً لتنفيذ هجمات ضدّ السعودية. بعد مرور قرابة عقد على كلام ولي العهد السابق، تجاوز اليمن كونه «مشكلة» ليُضحِي «مأزقاً» للمملكة، وذلك بفضل ولي العهد الحالي الذي رفض الاستجابة لجهود ابن عمّه المبكرة في تجنيب السعودية مستنقعاً بدا الانغماس فيه محتوماً، بدءاً من مفاوضات «ظهران الجنوب» والاتفاق الذي نتج منها في آذار/ مارس 2016، وصولاً إلى مفاوضات الكويت في العام نفسه والتي استمرّت لأشهر بلا نتيجة.
اليوم، تعيش السعودية أسوأ مراحل حربها على اليمن؛ فلا هي قادرة على حسمها لصالحها (وهذا ما بات خارج النقاش أصلاً منذ زمن)، ولا هي مستعدة للمضي في مشروع حل سيُظهرها مهزومة أيّاً كانت درجة لياقته بماء وجهها. تذبذبٌ هو ما يفسّر تعثّر الاتصالات السياسية التي بدأتها الرياض مع حركة «أنصار الله» منذ أواخر العام الماضي عبر قنوات عدّة، والتي أوحت بأن التسوية السياسية باتت ممكنة وقريبة ربما. لكن سعي المملكة، بدفع أميركي، إلى التحايل على قيادة صنعاء بهدنة هشّة، تتيح للسعوديين الخروج من مأزقهم وتبقي في الوقت نفسه سوط الحرب مسلّطاً على اليمن وحلفائه الإقليميين، حال إلى الآن دون الوصول إلى أيّ تفاهمات.
تدرك الرياض أنه كلّما طال أمد ورطتها في اليمن أصبح الفكاك منها أكثر صعوبة وأكبر كلفة، إذ إن المواقع التي كانت متبقّية لحلفائها في الشرق، والتي كان يمكن المفاوضة بها، تهاوت أمام الجيش واللجان الشعبية، حتى وصلت الموسى إلى مدينة مأرب، المعقل الأخير للقوى الموالية لها هناك. أمّا في الجنوب، فلا تكاد السعودية تطفئ نيران معركة حتى تشتعل أخرى بوجهها، فيما الاتفاق الذي رعته بين وكلائها من جهة ووكلاء أبو ظبي من جهة أخرى لا يزال مستعصياً على التنفيذ، كاشفاً عجزها عن إدارة تناقضات جبهتها، فكيف بتوحيدها للمساومة بها وجني مكاسب من ورائها؟



لا «مستقبل جديداً»؟
إذا كانت «رؤية 2030 قد انتهت تقريباً»، فإن مشروع «مدينة المستقبل» (نيوم)، الذي قُدّرت تكلفته بـ500 مليار دولار، يكاد يمثّل علامة خطّ النهاية تلك. باستثناء بناء عدد من القصور الملكية ومهابط الطائرات المروحية على ساحل البحر الأحمر، لا تزال مدن «نيوم» الاثنتا عشرة حبيسة الأوراق، بما فيها مدينة «ريفييرا» التي أريد لها أن تكون باكورة «المستقبل الجديد» بالانتهاء منها في عام 2020. وليس قاطنو 4000 وحدة سكنية في ثماني قرى كان مُقدّراً أن تكسحهم «نيوم» هم العائق الأكبر أمام قيامها، وإن مثّل مقتل أحدهم (عبد الرحمن الحويطي) في نيسان/ أبريل الماضي جرّاء رفضه إخلاء منزله مؤشراً إلى صعوبة تجريفهم، إلا أن أخطر أزمة اقتصادية ومالية تواجهها المملكة منذ عقود (والوصف لوزير ماليّتها محمد الجدعان) تجعلها مرغمة على تعليق مشاريعها الأسطورية، وعلى رأسها «نيوم»، علماً بأن هذه الأخيرة بدت، منذ الإعلان عنها، أقرب إلى مُنتجات الخيال العلمي. مردّ ذلك إلى تطلّبها استثمارات ضخمة لا تَظهر البيئة السعودية من النواحي كافة جاذبة لها (وخصوصاً لناحيتَي الحريات واقتصاد المعرفة)، وهو الأمر نفسه الذي يعيق مجمل الاستثمارات الأجنبية التي تمثّل عماداً رئيساً من أعمدة «رؤية 2030».