بعد حلقة أولى نُشرت قبل أيام بعنوان «البحرين... الأوامر الملكية تُسيّر البلاد وتُهمّش البرلمان»، هذه حلقة ثانية في إطار الحديث نفسه عن الأدوات القانونية التي يستند إليها ملك البحرين في تسيير البلاد منفرداً، منتهكاً الدستور، ومُهمِّشاً «المؤسسة التشريعية».
بين القانون والمرسوم بقانون
«القانون» هو النصّ التشريعي الذي تُقرّه المؤسسة التشريعية ويُصدّقه الملك. وتتكوّن المؤسسة التشريعية من ثمانين عضواً، يتوزّعون بالتساوي على غرفتَين: مجلس النواب «المنتخَب»، ومجلس الشورى المُعيَّن. أمّا «المرسوم بقانون»، فهو النص التشريعي الذي يصدره الملك في فترة حلّ البرلمان أو الإجازة البرلمانية، وتُمنَح له قوة القانون.

الموقف الدستوري
تعطي المادة 38 من دستور 2002 الملك حق إصدار مراسيم لها سلطة القانون، في فترة الإجازة البرلمانية، شرط أن يكون هناك «ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير». وبالنظر إلى هيمنة القصر على عملية إصدار القوانين، من خلال قيام الملك بتعيين نصف أعضاء البرلمان (مجلس الشورى المُعيَّن)، وتَحكُّمه في العملية الانتخابية لمجلس النواب، واشتراط موافقة الملك على إصدار القانون، فإننا نفترض أنه لم يتمّ اللجوء إلى إصدار المراسيم بقوانين إلا في أضيق الحدود، وفي قضايا لا تحتمل التأخير بالفعل، لكن الواقع يفيد بأنه جرى التوسّع في إصدار المراسيم بقوانين على نحو يحيل الاستثناء قاعدة، وتَحوّلت الفتحة الضيقة إلى باب لمرور البواخر.
ومنذ فضّ دور الانعقاد للبرلمان، في منتصف أيار/ مايو 2020، أصدر الملك حمد بن عيسى اثني عشر مرسوماً بقانون في قضايا مهمّة وحيوية، تمسّ المواطن وتقاعده، والوضع المالي للدولة، وتنظيم العمل البرلماني، ومؤسسات المجتمع المدني، وقضايا أخرى، ليس فيها ما يستدعي الاستعجال، ما يشير إلى قصدية في ازدراء المؤسسة التشريعية، وامتهانها. فلا حاجة فعلية إلى صدور مراسيم كهذه البتّة، إلا لغايات سياسية، يراد منها، على الأرجح، العودة عن أيّ «مكتسبات» متواضعة كانت تَحقّقت في لحظة 2001، بعد نضال شعبي مرير طوال عقود.

متى بدأت هذه الممارسة؟
ربّما يُعتقد أن هذه الممارسة بدأت في لحظة 2011، بعد الانهيار الكلّي لما كان يعرف بـ»المشروع الإصلاحي» الذي دُشّن في 2001، لكن الوقائع تفيد بأن هذه الممارسة بدأت لحظة تَحوّل البحرين من إمارة إلى مملكة، وإصدار دستور 2002 المختلَف عليه. فقد وقّع ملك البحرين، في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2002، المرسوم بقانون الرقم 47 بإصدار قانون الصحافة والمطبوعات والنشر، والمرسوم بقانون الرقم 46‌‏ بإصدار قانون الإجراءات الجنائية، والمرسوم بقانون الرقم 48 بإصدار قانون الاتصالات، وقوانين أخرى. صدرت تلك الحزمة غير المستعجلة من المراسيم في حمأة الحملات لانتخاب ثاني مجلس نيابي في تاريخ البحرين. وكانت الحملات باردة أصلاً في كثير من المناطق، بسبب مقاطعة قوى المعارضة الرئيسة لها احتجاجاً على صدور دستور 2002.
المناخ السياسي المكتوم، وخنق العمل الإعلامي والمدني، يسهمان في ضعف العملية البرلمانية


وسبق أن أصدر الملك، في 10 تموز/ يوليو 2002، المرسوم بقانون الرقم 15 في شأن مجلسَي الشورى والنواب، والمرسوم بقانون الرقم 14 في شأن مباشرة الحقوق السياسية، لكن نُظر عموماً إلى هذين القانونين وقوانين أخرى ذات صلة وكأنها مراسيم لا بدّ منها، ما دامت تتّصل بالعملية السياسية والانتخابية، وغايتها استئناف العمل البرلماني. أمّا أن يقوم القصر بإصدار مراسيم من دون ضوابط، مُستغلّاً غياب المؤسسة التشريعية، التي كانت ستلتئم بعد أيام حينها، وفي قضايا لا تحمل صفة الاستعجال، فقد جلب ذلك الكثير من الإحباط في لحظة فارقة، إذ كان الجوّ ملبّداً بالغيوم أصلاً، نظراً إلى صدور دستور 2002 من دون توافق وطني، وخلاف تعهّدات القصر بالحفاظ على بنية دستور 1973.
وغاية القول، إن تجاوز القصر للمؤسسة التشريعية أمر شائع، وليس استثناءً، حتى حين كانت المؤسسة الرسمية الحاكمة في أوج ادّعاءاتها تبنّي النهج الديمقراطي، وتمكين «البرلمان» من أداء مهامه.

هل يملك «البرلمان» ردّ القوانين؟
بحسب المادة 38 من دستور المملكة، فإنه يجب على السلطة التنفيذية عرض القوانين التي أصدرها الملك بين أدوار الانعقاد على مجلسَي الشورى والنواب، وإذا لم يُقرّاها، زال أثرها. لكن تركيبة المؤسسة التشريعية لا تسمح بردّ المراسم، وفي غضون السنوات الثماني عشرة الماضية من عمر المؤسسة التشريعية الكسيحة، ليس بين أيدينا تجربة تفيد برفض أعضاء «النواب» و»الشورى» مرسوماً بقانون أصدره الملك. وإضافة إلى التعقيدات الدستورية التي تُقيّد «البرلمان»، فإن المناخ السياسي المكتوم، وخنق العمل الإعلامي والمدني، يسهمان في ضعف العملية البرلمانية.

المحكمة الدستورية
طالما تَقدّمنا بالنصح بالتوجّه إلى المحكمة الدستورية لإيقاف القصر عن استخدام المادة 38 لإصدار ما يشاء من قوانين، لكن المناخ العام فقد الثقة بالنظام القضائي، إذا علمنا أن المحكمة الدستورية تتشكّل بأمر ملكي، وأن القضاة يُعيّنهم الملك منفرداً، فلا يُتصوّر إلّا أن تأتي قرارات القضاء موافِقة لهوى مَن عَيّنها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا