السؤال المُلِحّ، بحرينياً وخليجياً: هل أزيحت الصخرة التي تمنع الإصلاح في جزر البحرين الصغيرة، بعد رحيل رئيس وزرائها، خليفة بن سلمان آل خليفة، أمس، عن عمر يناهز 84 عاماً؟ أم أن المسألة أعقد من ذلك، محلياً وإقليمياً؟ رحل الرجل الذي شغل منصب رئاسة الوزراء، منذ استُحدث المنصب بعد استقلال البحرين في 1971، حتى وفاته غير المفاجئة أمس الأربعاء الـ11 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، اليوم الذي سيظلّ علامة فارقة في تاريخ البلاد.
(أ ف ب )

وكَلّف الملك حمد بن عيسى، نجله البكر، بشغل المنصب، وبذلك يجمع سلمان بن حمد بين منصبَي رئاسة الوزراء وولاية العهد، علماً بأنه يقود الحكومة فعلياً منذ تعيينه نائباً أول لرئيس الوزراء في آذار/ مارس 2013. وبرحيل رئيس الوزراء، يتحمّل الملك مسؤولية أكثر وضوحاً عن مآلات البلاد، وتُطرح الأسئلة عن برنامج القصر لإخراج الجزيرة من مأزقها السياسي والاقتصادي المتفاقم، بالنظر إلى الأسطورة غير الواقعية أو الصورة النمطية التي تَشكّلت في الغرب والجوار الخليجي والداخل البحريني، وتتحدّث عن حكومة برأسين.

أسطورة خليفة
والحقيقة، إن هناك أمراً مثيراً في ما يخصّ حياة أقدم رئيس وزراء في العالم، مردّه دوره الطاغي إبّان حكم شقيقه الأمير الراحل عيسى بن سلمان، الأمر الذي يجعل من الصعوبة إقناع القطاعات الشعبية والجسم الدبلوماسي والإعلامي بأن رجل المنامة القوي على مدى ثلاثة عقود أصبح خارج السلطة منذ اعتلاء الملك حمد العرش في آذار/ مارس 1999؟ ولذا، ليس مستغرباً أن نجد كثيراً من التقارير التي سطّرتها وكالات الأنباء في الأربع والعشرين ساعة الماضية، تُلصق برئيس الوزراء إعاقة سياسات الإصلاح. إذاً، خلال نحو ثلاثين عاماً، تَسيّد الشيخ خليفة المشهد السياسي، وتَحكّم في مفاتيح السلطة، لكن أخطاءه الفادحة بعدم إقامته تحالفات داخلية وإقليمية ودولية تسنده، سهّلت على ابن شقيقه، الملك حمد، لاحقاً، إبعاده من القرار.

علاقة خليفة وحمد
تقاسم السلطة في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، اقتضى من الأمير السابق، عيسى، تسليم مقاليد الأمور الأمنية والاقتصادية والمالية والسياسية إلى شقيقه الأصغر رئيس الوزراء، باستثناء الجيش الذي ظلّ من نصيب ولي العهد، الحاكم الحالي، حمد. وقد فشل رئيس الوزراء في إحداث توازن في السلطة، وشراكات بينه وبين أطراف العائلة الحاكمة، فاحتكر القرار السياسي والاقتصادي، ولم يَمنح حتى شقيقه الأكبر الأمير الراحل عيسى فسحة للحركة، واستبعد شقيقه الثالث الأصغر، محمد بن سلمان، المتوفى في 2009، والذي شغل رئيس الأمن في ستينيات القرن الماضي. وفوق ذلك، همّش الشيخ خليفة كلّياً نجل ابن أخيه، حمد، الذي كان ولياً للعهد، تهميشاً عظيماً. رغم هذا، أجرى حمد محاولات عديدة ليكون فاعلاً في القرار، منها قيامه بتعيين مستشاره المقرّب، حسن فخرو، وزيراً للتخطيط، أثناء إحدى سفرات رئيس الوزراء للخارج في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بيد أن رئيس الوزراء، الحاكم الفعلي للبلاد حينها، ألغى القرار المذكور.
الأمر الوحيد الذي لم يقم به الشيخ خليفة، حين كان قوياً، هو انقلاب عسكري، في فترة شهدت انقلابات مدعومة بريطانياً في الجوار الخليجي: أبو ظبي (1966) وعمان (1970) وقطر (1972). فقد نجح الأمير الراحل عيسى في إبقاء الجيش لدى وليّ عهده حمد، مقابل أن يتسلّم خليفة الشؤون الأخرى كافة. وظلّ مجلس الدفاع الأعلى الذي يرأسه حينها رئيس الوزراء غير مفعّل. تمترس حمد في الجيش استعداداً للحظة المناسبة، فوثب على الكرسي مستنداً إلى المؤسسة العسكرية في 1999، وقام بردّ الصاع صاعين إلى رئيس الوزراء، فأبعده وحاشيته من المشهد، عبر خطوات دستورية نقلت السلطة بسرعة نسبياً من رئيس الوزراء إلى الملك، وتغييرات في أجهزة الدولة أطاحت رجالات رئيس الوزراء تباعاً.
عشرون عاماً من حكم الملك كانت أسوأ بمراحل من حقبة رئيس الوزراء


خليفة والغرب
إضافة إلى فشل رئيس الوزراء في عقد حلف «خليفي» يحيط به، فقد فشل أيضاً في إنشاء حلف مع الغرب، الذي استمرّ إعلامه في صبّ جام غضبه على الرجل، إزاء التعدّيات الحقوقية التي وسمت عهده الفعلي بين 1971 و1999. وسيبدو مثيراً أن أشير مثلاً إلى أنه لا توجد بين أيدينا سجلّات تفيد بأن الشيخ خليفة قد قام بزيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، الدولة العظمى التي تتخذ قيادة الأسطول الخامس التابع لها من المنامة مقرّاً لها، وفي المقابل عَزّز وليّ العهد حينها، الحاكم الحالي حمد، علاقاته مع «البنتاغون» وجنرالات القاعدة المتعاقبين. كذلك، لا تتيح لنا الشواهد والوثائق البريطانية ما يفيد عن علاقة وثيقة ربطت رئيس الوزراء بالحكومات البريطانية المتعاقبة. والزيارة الرسمية اليتيمة التي قام بها الشيخ خليفة إلى تن داوننغ ستريت كانت مطلع الثمانينيات، بدعوة من الراحلة مارغريت تاتشر، إبان حرب العراق على إيران، والتي دعم فيها رئيس الوزراء «حزب البعث». وحتى علاقاته بشرق آسيا التي تَعمّقت منذ تسعينيات القرن الماضي، كانت مرتبطة بالأساس بمصالح الرجل الاقتصادية، أكثر من كونها مرتبطة بالسياسية الخارجية البحرينية. وهنا، يُعتقد أن تركة رئيس الوزراء المالية الكبيرة ستكون محلّ أنظار القصر. ويمكن أن نقول إن وثائق «ويكيليكس» ورسائل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك هامشية علاقة رئيس الوزراء بالغرب، وهامشية دوره السياسي في الداخل منذ 1999. وكذا، لم يشكّل رئيس الوزراء تحالفات إقليمية مهمّة. وظلّت الرياض وأبو ظبي حلفيتين أساسيتين لحمد، سواء حين كان ولياً للعهد، أم حين أصبح ملكاً.

خليفة والقطاعات الشعبية
بعد توافق وطني لم يدم طويلاً، اتخذت العائلة الحاكمة، بزعامة رئيس الوزراء، مدعومة بالإقليم، قراراً بتعليق العمل بدستور دولة البحرين، الصادر في 1973. ثمّ اختار رئيس الوزراء التحالف مع الضابط البريطاني السيّئ الذكر، إيان هندرسون، رئيس المخابرات البحرينية. وفتك الرجلان بقوّتَي اليسار الرئيسيتين: «الجبهة الشعبية»، و»جبهة التحرير»، بعد حلّ البرلمان الوطني في صيف 1975. ثمّ جاء الدور على الإسلاميين، فتمّ توجيه ضربة إلى «تيار الجبهة الإسلامية» (الشيرازيين) مطلع الثمانينيات، و»حزب الدعوة»، بقيادة آية الله قاسم، مطلع العام 1984.
ولم يكن رئيس الوزراء في موقع المتحالف مع «الإخوان» و»السلف»، حين كان ممسكاً بتلابيب الأمور، خلاف ما فعل الملك حمد مِن وضع القوى الإسلامية «السنّية» في جيبه. والجهة الحزبية الوحيدة التي احتفظ رئيس الوزراء بعلاقات معها هي «حزب البعث»، ولذا نجد «البعثيين» في مواقع وزارية في حكومات رئيس الوزراء، أمثال المفكر المعروف علي فخرو، الذي ظلّ وزيراً منذ 1972 حتى 1994، ثمّ عُيّن سفيراً في باريس حتى مطلع الألفية الجديدة.
وبتعليق دستور 1973، دخلت البلاد نفقاً مظلماً، يتحمّل تبعاته رئيس الوزراء، الذي مَهّد للأحادية التي تَكرّست بعد صدور دستور 2002. ولذا، نجد أنه بعد الهزّة التي أحدثتها حرب الخليج الثانية (غزو الكويت، ثمّ التدخل الأميركي لإخراج قوات صدام منها)، تحالَف اليسار والقوميون والإسلاميون ضدّ رئيس الوزراء، مطالبين بعودة العمل بدستور 1973، وانطلقت ما باتت تُعرف بـ»انتفاضة التسعينيات»، التي قمعها ثنائي رئيس الوزراء - هندرسون، بدعم بريطاني - سعودي.
وبمجرد وصول الملك حمد إلى السلطة في 1999، تكتّلت المعارضة ضدّ رئيس الوزراء، داعمةً القادم الجديد إلى القصر. وحملت المعارضة الشيعية واليسارية ما سُمّي «المشروع الإصلاحي» للملك على أكتافها، ودفعت في اتجاه إقصاء رئيس الوزراء عن المشهد. لكن بعد أن استتبّ الأمر للملك حمد، انقلب على الطرفين (رئيس الوزراء والمعارضة)

ماذا بعد رحيل خليفة؟
خلافاً للصورة النمطية عن إعاقة رئيس الوزراء للإصلاح، فإن عشرين عاماً من حكم الملك كانت أسوأ بمراحل من حقبة رئيس الوزراء، سواء على صعيد التمييز ضدّ الشيعة الذي تضاعف، أو التجنيس الذي أحدث تغييراً سكانياً رهيباً، أو إعلان دستور مملكة البحرين الذي عَزّز من صلاحيات الملك وحَجّم دور البرلمان. وكلّ تلك الإجراءات الحادّة والأحادية جرت في السنوات الأولى من حكم الملك حمد، أي قبل تفجّر «ربيع البحرين» المقموع، وبطبيعة الحال، تفاقمت الأوضاع منذ 2011. وفق هذا المعطى، فإن الملك يُعدّ صاحب نظرية القبضة الحديدية، مدعوماً بالمحور السعودي، ولم يمنع «البنتاغون» القصرَ حين اختار الفتك بالناس، كما شاهدنا في سنوات عشر مضت.

فرصة أخيرة للملك
مع ذلك، في الوقت الراهن، فإن فرصة مؤاتية، وربّما أخيرة، تبدو أمام الملك حمد لتأكيد الانطباع بأن رئيس الوزراء كان سبباً في امتناع الإصلاح، وأن إزاحته سابقاً كانت ستؤدي إلى إحداث خلخلة داخل العائلة الحاكمة، ولكن برحيله فقد فُتحت الأبواب من جديد أمام فرضيات عديدة! هذا السيناريو المتشائل يجد بعض سنده بوصول الديموقراطيين إلى الحكم في واشنطن، لكنه قد ينسى عمق التأثير السلبي الذي يتركه المحور السعودي المعادي للشراكة الشعبية، والقلق من النموذج الكويتي التشاركي، ومن انتقال عدوى الإصلاح وتعزيز نفوذ الشيعة في الجوار السعودي في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا