يتأتّى على المتغيّرات المرتقبة في البيت الأبيض، جنوحٌ سعودي نحو التهدئة على أكثر من مستوى، وسط خشية سكّان القصر مِن أن تطال مفاجأة التغيير هذه أحد أعمدته. لا ريب في أن التخبّط يحكم، في الظرف الراهن، سياسات المملكة وسلوكها، فلا أحد يلقّنها ما العمل، وأيّ اتجاه تسلكه لتجنّب احتكاك تبدو احتمالاته عالية مع الإدارة الأميركية المقبلة. فشلت، بعض مضيّ نحو ستة أعوام، في الخروج من حرب اليمن، وها هو أميرها، محمد بن سلمان، يبدأ، بخطوات خجولة، رحلة تطبيع علاقات بلاده مع العدو الإسرائيلي، مستفيداً من «واقع» افتتحته حليفته الإماراتية، بدفع من إدارة دونالد ترامب التي تتأمّل إحداث خرقٍ من هذا الوزن يفتح الباب واسعاً أمام تكتّل عريض في وجه إيران. وإلى أن تحين ساعة الصفر، كان لا بدّ من حلّ مسألة عداء «الأشقّاء» وإنهاء مقاطعة قطر من أجل إعادة «الوحدة» إلى «البيت الخليجي». حتّى في هذه، يبدو الخرق محدوداً، لاسيما وأنه قد يقتصر على مصالحةٍ ثنائية بين الرياض والدوحة، لا تبدو أبو ظبي، المشغولة بشهر عسلٍ بدأ للتوّ مع حليفتها الإسرائيلية، في وارد الانخراط فيها.
يبدو أن «الأزمة الصغيرة جداً» في طريقها إلى الانحسار، نتيجة الضعوط التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإحداث خرقٍ يبدو ناجزاً في جدار الأزمة الخليجية المتواصلة منذ ثلاثة أعوام ونصف عام. قطر، التي سعت في ما مضى إلى رأب الصدع بعد فرض جيرانها (السعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر) مقاطعة متعدّدة الأوجه عليها، تبدو في موقع أفضل مِن ذي قبل للتفاوض استناداً إلى جملة عوامل، أهمّها أن ترامب الذي سعّر، بدايةً، «خلاف الأشقاء» وأيّد موقف السعودية، في طريقه إلى مغادرة البيت الأبيض، تاركاً حليفته القلقة تصارع شياطين الإدارة المقبلة. لمرّة أخيرة، يشتغل الرئيس الأميركي على دفع المصالحة، التي يبدو أنها ستقتصر في مرحلتها الأولى على الرياض والدوحة، قُدُماً، ليغني سجلّه الحافل بـ«إنجاز» صغير على مستوى السياسة، يضاف إلى اتفاقات التطبيع التي أشرف شخصياً على إنجازها من جهة، وليعزّز الضعوط الاقتصادية على إيران بحرمانها من العائدات التي تحصل عليها مقابل السماح للطيران القطري باستخدام أجوائها كبديل من الأجواء السعودية، من جهة ثانية.
وعلى رغم مساعي الوساطة الكويتية التي أُعيد تفعيلها بصورة مكثّفة في الأسابيع القليلة الماضية، للوصول إلى توافق يشمل جميع الدول المقاطِعة من دون استثناءات، إلّا أن الترجيحات تشير إلى أن إعلان المصالحة سيقتصر على السعودية وقطر، في ظلّ تعنّت تبديه الإمارات المنشغلة بدفع علاقاتها مع إسرائيل قُدُماً. وتشي مسارعة المملكة إلى إتمام المصالحة والتخلّص من عبء هي في غنىً عنه، بمحاولتها إغلاق أحد الملفّات التي يمكن أن تشكِّل إزعاجاً لإدارة جو بايدن، ولا سيما بعد فشلها في وضع حدٍّ لعدوانها المتواصل على اليمن. الاتفاق الأوّلي الذي بات ناجزاً، وفق ثلاثة مصادر تحدّثت إلى وكالة «بلومبرغ» الأميركية، أول من أمس، «لن يشمل الدول الثلاث الأخرى التي قطعت، إلى جانب السعودية، علاقاتها مع الدوحة في عام 2017»، إذ لا يزال التوصّل إلى اتفاق شامل يعيد ترتيب العلاقات المتصدّعة «بعيد المنال بفعل استمرار وجود قضايا عالقة، مثل علاقة الدوحة مع طهران»، على حدّ تعبير مصدر رابع.
يراد حرمان إيران من العائدات التي تحصل عليها مقابل السماح للطيران القطري باستخدام أجوائها


هذا الاختراق المحتمل يأتي بعد أسابيع من تكثيف الوساطة الكويتية التي أسفرت، أخيراً، عن زيارة قام بها مستشار الرئيس الأميركي وصهره، جاريد كوشنر، رفقة مستشار الرئيس لشؤون الشرق الأوسط، آفي بيركوفيتش، والمبعوث الأميركي السابق إلى إيران، براين هوك، للدوحة والرياض. ويُرجّح أن يشمل التقارب، بحسب مصادر «بلومبرغ»، إعادة فتح المجال الجوّي والحدود البرية بين البلدين، ووضع نهاية للحرب الإعلامية بين الجانبين، والقيام بمزيد من الخطوات لبناء الثقة، ضمن خطّة مفصّلة لإعادة العلاقات تدريجياً. في الإطار عينه، أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» بأن الإدارة الحالية ترغب في حلحلة الأزمة الخليجية قبل رحيلها، بهدف تضييق الخناق على إيران، موضحةً، نقلاً عن مصادر أميركية لم تسمّها، أنه «ضمن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه، تضغط إدارة ترامب على السعودية لفتح مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية القطرية التي تدفع ملايين الدولارات مقابل استخدام المجال الجوّي لإيران». وأشارت إلى أن «المهمّة الدبلوماسية» ستتركّز خصوصاً على «توجيه ضربة أخيرة للاقتصاد الإيراني»، قبل أن يغادر ترامب منصبه في 20 كانون الثاني/ يناير المقبل. ونقلت الصحيفة عن دبلوماسي مطّلع قوله إنه أثناء اجتماع عُقد، أول من أمس، مع مسؤولين قطريين، أثار كوشنر احتمال تغيير مسار الرحلات الجوية التجارية من قطر عبر المجال الجوي السعودي بدلاً من إيران، وهو ما لفت إليه، قبل أيام، مستشار الأمن القومي الأميركي، روبرت أوبراين، حين أكّد أن السماح للطائرات القطرية بالتحليق فوق أجواء المملكة يُعدُّ أولوية لإدارة ترامب. ومن شأن ذلك، وفق الصحيفة، أن يحرم الجمهورية الإسلامية من رسوم سنوية تُقدَّر بنحو 100 مليون دولار تدفعها الدوحة للطيران عبر مجالها الجوي.
على عكس الهرولة السعودية إلى تطبيع العلاقات مع قطر، لا تستعجل الإمارات تغيير الوضع القائم، بل هي تحبّذ أن تبقى الأمور على حالها، ولا سيما أنها أنجزت المهمّة الصعبة بعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل. في هذا السياق، تشير وكالة «بلومبرغ» إلى أن أبو ظبي لا تزال متردّدة إزاء إصلاح علاقاتها مع الدوحة، إذ تفضّل التركيز على بناءِ العلاقات المستجدّة مع إسرائيل، وتسعى توازياً إلى تجنّب أيّ تصعيد مع طهران. في المقابل، تخشى الرياض تخفيف الضغوط على الجمهورية الإسلامية في عهد بايدن الذي يعتزم اتباع مسارٍ مختلف عن ذاك الذي أرساه سلفه، فيما يتنامى النزاع بينها وبين حليفتها في شأن السياسة التي تنتهجها «أوبك»، وسط تهديدات بدأت تطلقها الإمارات بالانسحاب من المنظّمة في حال استمرّت في اتباع سياسة الاقتطاعات الإنتاجية. الاتفاق المرتقب يشي بانفراجة تُنذر بافتتاح مرحلة جديدة من العلاقات السعودية - القطرية، إلا أنه ربّما يؤدّي، في الوقت ذاته، إلى تعزيز التوترات المتزايدة بين المملكة وأقرب حليفة لها في المنطقة، الإمارات، بعدما برزت الخلافات في السياسة الخارجية للبلدين بوضوح في الأشهر الأخيرة، بدءاً من قرار أبو ظبي إنهاء عملياتها العسكرية في اليمن، وليس انتهاءً بانخراطها في الحرب الليبية وتعزيز حضورها في القرن الأفريقي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا