يُلقي تصاعد التوتّر الأميركي ــ الصيني بثقله على منطقة الخليج، حيث تتكاثر الأسئلة بشأن الاستراتيجية الأميركية مع نهاية حقبة الحرب على «الإرهاب»، وفاتحة حقبة «الحرب» على الصين. وهي أسئلة تستتبع أخرى حول خيارات الدول الخليجية تحت وطأة هذا الصراع، فضلاً عن الرؤية الصينية لما يُراد من الشرق الأوسط أبعد من التجارة والطاقة. وإذ يبدو أكيداً أن تلك الدول بدأت منذ وقت مبكر وضع أسس لشراكات عميقة مع بكين في إطار «التحوّط»، وأن هذا الأداء لا يفتأ يقلق واشنطن التي بات سياسيّوها يتحدّثون عن «نقطة خلاف حقيقية» مع الشركاء، يسود الترقّب لما تقبل عليه هذه المنطقة في ظلّ «الحرب الباردة» الجديدة، وسط حيرة وارتباك يسودان صفوف حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً أن الأخيرة لم تتّضح، إلى الآن، معالم استراتيجيّتها تجاه الحلفاء، في مرحلة الاستدارة الآسيوية

«مع قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء الشرق الأوسط للتركيز على منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا، فإنها تخاطر بمنح هاتَين الدولتَين فرصة لملء الفجوة وتوسيع نفوذهما حول الخليج»

قائد القيادة المركزية الأميركية
الجنرال كينيث ماكنزي


منذ مدّة، بات يضيف الخبراء إلى التأثيرات الجيوسياسية التقليدية على منطقة الخليج عامل الاستعداد لعصر ما بعد النفط. وإن كان لهذا العامل تأثيرات داخلية وإقليمية، كبرامج التحول (رؤية 2030 في السعودية وقطر والبحرين، الإمارات 2021، الكويت 2035، وعُمان 2040)، وكتمدّد المنافسة على الاستثمارات والدور من الخصوم إلى الحلفاء - في حالة الإمارات والسعودية -، فإن لهذا العامل تشابكاً دولياً، كذلك، تحديداً مع تطوّر الصراع الصيني ــ الأميركي. ولاستكشاف الرابط بين مشاريع برامج التحوّل الضخمة في الخليج والتوتر الصيني ــ الأميركي، يمكن ملاحظة تزايد الاعتماد الخليجي على الصين، ليس كسوق لبيع النفط فقط، بل أيضاً كشريك تجاري في ملفّات تكنولوجيا المستقبل، المدن الذكية، المراقبة والتجسّس، الذكاء الاصطناعي، التسليح والأمن، البنية التحتية، الموانئ، الطاقة البديلة، الطاقة النووية... إضافة إلى الشقّ الإقليمي من مبادرة «الحزام والطريق»، وهي جميعها تقع في دائرة حملة الولايات المتحدة لاحتواء الصين وفرملة صعودها التنافسي، ما يفسّر قلق واشنطن من انتهاز بكين فرصة ربط استثماراتها ببرامج التحوّل، لتحقيق شراكة عميقة مع دول الخليج.

«تحالف المستبدّين النهضويين»
منذ العودة إلى حالة تزعزُع الثقة بالحليف الأميركي مرّة أخرى إثر مشهد الانسحاب من أفغانستان بالطريقة الفوضوية التي تمّ بها، تقف دول الخليج على مفترق تحوّلات مهمّة. هي لا تُقرأ في طريقة الانسحاب مجرّد إمكانية للتخلّي عن الحلفاء وطعنهم في الظهر، بل بنظرة أشمل إلى المشهد، تبدو أفغانستان بالنسبة إلى المنطقة علامة على نهاية «القديم»، أي حقبة الحرب على «الإرهاب»، وفاتحة «الجديد»، أي الاستدارة الأميركية نحو الصين. وهذا ما يفتح من جديد صندوق أسئلة الدور والموقع أمام دول الخليج، وعلى وجه قد يكون ملحّاً وحسّاساً في القريب، أكثر من المحطّات الماضية التي تمّ فيها تناول دور الصين في الإقليم. وعن ذلك، تقول قراءة لـ«معهد الشرق الأوسط»، إن «مخاطر الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين أعلى بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي من معظم المناطق الأخرى حول العالم».
وبالتزامن مع النقاش بشأن انسحاب واشنطن وتداعياته، كثُر حديث المراقبين الأميركيين عن مصير الدور الصيني في المنطقة. وبات بين الساسة الأميركيين، على خطى ماكينزي، مَن يعبّر عن أن واشنطن صارت ترى العامل الصيني «نقطة خلاف حقيقية»، على الأقلّ مع الإمارات، وفق ما تورده «فايننشال تايمز» في تقرير قبل أيام نقلاً عن دبلوماسي وصفته بـ«المخضرم». وتنقل الصحيفة أيضاً، عن جوناثان فولتون، الخبير في العلاقات الصينية والشرق أوسطية في «جامعة زايد» في أبو ظبي، وصْفه العلاقة الخليجية مع الصين بأنها «وسيلة تحوّط جيّدة لقادة الخليج». وفي سياق «أدلجة» الصراع مع الصين، وهو الخطاب المتنامي غربياً في الآونة الأخيرة، يضيف كتّاب غربيون في قراءتهم للدور الصيني في الخليج بُعداً آخر، إلى الحرب التجارية والمظلّة الأمنية والدور والنفوذ... باستخدامهم مصطلح تحالف «المستبدّين النهضويين»، في تلميح إلى التخوّف من ارتياح الخليجيين إلى العلاقة مع بكين أكثر منها مع واشنطن، كون المبدأ الصيني لا يميل إلى الشروط السياسية ولا تأثير الأيديولوجيا وفق فولتون: «لن نخبرك بما يجب عليك فعله». أي أن الصين لا تقحم العلاقات والشراكات في بازار «القيم والحقوق والحريات». وثمّة مفارقة هنا متمثّلة في أن الرئيس الأميركي جو بايدن، يروّج لعقد «قمّة لدول الديمقراطيات» كتحالف يدعم حملته ضدّ الصين ويضفي عليها طابعاً «أيديولوجياً»، وفي الوقت نفسه تخشى إدارته من دور بكين وتستعدّ لمواجهة «تغلغلها» لدى حلفائه «غير الديمقراطيين».
ليس هناك تفسير واضح لما تريده بكين من الشرق الأوسط أبعد من التجارة والطاقة


الشراكات الجديدة كـ«وسيلة تحوّط»
يختصر مصطلح فولتون، «وسيلة تحوّط»، كثيراً من ما يجول في خاطر حكّام السعودية والإمارات منذ فترة، لاسيما بوجود تجارب تاريخية سعودية مماثلة في فترات تزعزُع الثقة بالأميركيين كصفقة الصواريخ في 1987. لكن ذلك المصطلح لا يقول كلّ شيء، ففي ذروة تركيز المراقبين على العلاقات الخليجية ـــ الأميركية في السنوات الماضية، كانت السعودية والإمارات تضعان أسساً لروابط عميقة مع الصين، التي تشتمل الكثير من الإغراءات للخليج لإنجاز التحوّل التنموي، وبالسرعة الكافية لإصابة مواعيد برامج التحوّل، كما هو صيت المشاريع الصينية. وطفت هذه العلاقات إلى السطح عقب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، حين طار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في جولته الآسيوية وحطّ في الصين مُوقّعاً على اتفاقات ضخمة، وآخذاً لنفسه الصورة الشهيرة على سور الصين العظيم. وتلك كانت تلويحاً صريحاً باستخدام «وسيلة التحوّط» الشرقية بوجه ضغوط الأميركيين، علماً أن ابن سلمان، منذ بروز دوره في المملكة، تنبّه إلى أهمية فتح الباب أمام التعاون مع الصينيين، وهو ما ظهر في تطورات عدّة: ربط «رؤية 2030» بمشروع «الحزام والطريق»، قرار استخدام تقنية الجيل الخامس من الاتصالات في مشروع مدينة نيوم، صفقات الطائرات بدون طيّار الصينية... وصولاً إلى العام الماضي حين أخذ الأمر طابعاً رمزياً مهمّاً مع الشروع بتدريس اللغة الصينية في المدارس السعودية كلغة ثانية. وفي مقابلته الأخيرة، أشار ابن سلمان إلى الصين بالحديث عن «خيارات واسعة» حول العالم، وعن هدف «صنع شراكات جديدة»: «اليوم الصين أعلنت أن المملكة شريك استراتيجي، والهند كذلك، وروسيا كذلك. لا تزال المملكة شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، نعزّز مصالحنا مع الجميع بما يخدمنا وبما يخدمهم... الولايات المتحدة كانت في الخمسينيات تشكّل 50 في المئة من اقتصاد العالم، اليوم حجم الاقتصاد الأميركي يشكّل 20 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي».
في الإمارات، المثال أكثر وضوحاً، حيث تتنوّع المحطّات التي تُبرز حجم التقارب مع الصين، لاسيما منذ زيارة الرئيس الصيني إلى الإمارات في 2018 وتوقيعه اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية». ومن بين تلك المحطّات ومشاريع التعاون، يمكن ذكر الآتي: آلاف الشركات الصينية العاملة في الإمارات، عشرات آلاف الصينيين العاملين في دبي، استحواذ الموانئ الإماراتية على نسبة هائلة من التجارة البحرية الصينية، التعاون الهائل في محاربة جائحة «كورونا» (رفضت السفارة الأميركية في الإمارات فحوصات كورونا لكون معدّاتها صينية)، شراء معدّات الحماية الأمنية الشخصية لمحمد بن زايد من الصين.

القلق الأميركي
العام الماضي، دقّ مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، مبكراً، ناقوس الخطر من دور الصين في الخليج. إذ شدّد، على وقع التجاذبات الأميركية - الصينية بخصوص ملف «كورونا»، في تصريح إلى وكالة «رويترز»، على ضرورة «أن تفكر (هذه الدول) في قيمة شراكتها مع الولايات المتحدة». واعتبر أن على الخليج توخّي الحذر إزاء المساعدات الصينية التي «تهدف إلى الاستغلال في أغلب الأحيان»، مشيراً إلى «مخاوف» بلاده بشأن مشاركة شركة «هواوي» الصينية في بناء جزء من البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس في الخليج، حيث الأسطول الخامس الأميركي وأكبر قاعدة عسكرية في المنطقة. وهو ما سيجعل، بحسب شينكر، التواصل بين القوات الأميركية والخليجية «صعباً»! وفي حزيران الماضي، كشفت «بلومبيرغ» أن إدارة بايدن طالبت الإمارات بخطوات للابتعاد عن الصين، منها إزالة معدّات «هواوي» من شبكاتها خلال السنوات الأربع المقبلة قبل استلام طائرات «أف 35»، مُهدّدة بتجميد صفقة الطائرات. وهذا التطور يوضح أن اتفاقات التطبيع مع تل أبيب لن تكون وحدها محدِّداً لنيل ثقة واشنطن، مثلما اعتبر وزير الدولة الإماراتي السابق للشؤون الخارجية (المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة حالياً)، أنور قرقاش. فحتى إسرائيل نفسها تخضع لضغوط أميركية متنامية بشأن الاستثمارات الصينية.
ولئن بات هذا القلق الأميركي معبَّراً عنه بصورة صريحة، فإن ما ليس واضحاً بعد هو استراتيجية واشنطن ربطاً بـ«الحرب الباردة» الجديدة، وتبدّل طبيعة الوجود الأميركي في المنطقة، واتّخاذه منحى تقليل الموارد المستخدَمة فيها بما يخدم التركيز على الصين. ولعلّ ذلك ما يجعل حلفاء واشنطن في الإقليم في حيرة وارتباك، وهم الذين بدأوا التفكير في التقارب مع الصين في مرحلة (الرئيس الأميركي الأسبق) باراك أوباما، وإعلانه نيّته الانسحاب ودفع الحلفاء إلى الاعتماد على أنفسهم. حتى من جهة الصين، ليس هناك تفسير واضح لما تريده بكين من الشرق الأوسط أبعد من التجارة والطاقة. إذ إن مصطلح «التوجّه غرباً» الذي صيغ ردّاً على إعلان أوباما رغبة واشنطن في الاستدارة الآسيوية بقي فكرة، ويحظى بمعارضين في بكين أكثر من المؤيدين.
يرجّح قرقاش في مقابلة، أن يكون الاستقطاب كبيراً وغير إيجابي، إذ ستقع بلاده بين الشريك الاستراتيجي وصاحب المظلّة الأمنية للمنطقة وخطوط الملاحة البحرية؛ وبين الصين الشريك التجاري الاقتصادي الذي يتنبّه إلى أنه بات متقدّماً تكنولوجياً. والمسؤول الإماراتي يدرك خطورة ما يجري، كون ملفّ الصين حضر بقوة في مداولات زيارته الأخيرة إلى واشنطن. واليوم، وبعد تحالف «أوكوس»، ستترقّب دول المنطقة، التي كما يصفها البعض ربّما تختلف على كلّ شيء سوى على رغبتها جميعها في الاستفادة من العلاقات مع الصين، استراتيجية واشنطن، وما إذا كانت ستضغط للذهاب بعيداً، كحال المغامرة بمصالح أستراليا التجارية، في الحملة على الصين.