في محاولة، على ما يبدو، لعقْلنة القرار السياسي السعودي، بعدما وسمه النزَق طيلة سنوات منذ صعود نجم محمد بن سلمان، جاءت الورقة الصادرة عن ما يُسمّى «مركز دعم اتّخاذ القرار» التابع للديوان الملكي، والمؤرّخة بـ19 - 10 - 2019. الورقة التي اطّلعت عليها «الأخبار»، تستبطن وجوه تناقض وقصور كثيرة، أبرزها أن محاولة المأسسة هذه لا تتّسق واستمرار سيطرة ابن سلمان نفسه، أو مقرّبيه القلّة، على المؤسّسات المعنيّة باتّخاذ القرار. أمّا القصور فيتجسّد في موضوع الوثيقة، المتعلّق بتوقّع حراك اجتماعي وسياسي في السعودية في أعقاب انتهاء العدوان على اليمن، أخذاً بتجارب سابقة شهدت حراكات من هذا النوع في أعقاب أحداث خارجية تأثّرت بها المملكة. لكن ذلك التقدير لا يضع في اعتباره تغيّرات جوهرية طرأت على البلد خلال الأعوام الأخيرة، تَجعل من الصعب انتظار هكذا تحوّلات، خصوصاً أن التناقضات داخل العائلة المالكة، والتي كان بالإمكان اللعب عليها سابقاً للدفْع في اتجاه أجندة «إصلاحية»، بات مُتحكَّماً فيها في الحدّ الأدنى، أقلّه على المدى المنظور
يبدو التقرير الصادر عن «مركز دعم اتخاذ القرار» في السعودية، أشبه بمحاولة بيروقراطية لعقلنة آلية صُنع القرار السياسي في المملكة، والذي هيمنت عليه الرعونة منذ صعود وليّ العهد الحالي محمد بن سلمان، وفق ما ظهر بشكله الأكثر فجاجة عقب مقتل الصحافي جمال خاشقجي. كذلك، تعكس الوثيقة التخبّط الداخلي في مؤسّسات الحُكم السعودية، أو بالأحرى المؤسّسة الحصرية المتمثّلة في الديوان الملكي؛ إذ يَجمع المركز، الذي يتبع تنظيمياً للديوان، بين نقيضَين: الأوّل، محاولة إصلاح مؤسّسات الدولة وتحديثها، ومأسسة آليات اتخاذ القرار بحيث تصبح أكثر عقلانية؛ والثاني، على النقيض من هذه المأسسة، التداخل بين صاحب القرار والمؤسّسات نفسها، بحيث تقع الأخيرة مباشرةً، لأسباب تتعلّق بضمان الولاء، تحت سلطة الأوّل، سواءً كان محمد بن سلمان نفسه أو أحد القلّة من أعضاء دائرته المقرّبة. والجدير ذكره، هنا، أن رئيس مجلس إدارة «مركز دعم اتخاذ القرار»، هو ياسر الرميان، الذي يشغل في الآن نفسه مناصب رئيسة عديدة أخرى في الدولة، تمتدّ من رئاسة صندوق الاستثمارات العامة ومجلس إدارة شركة «أرامكو»، وصولاً إلى «الاتحاد السعودي لرياضة الغولف».
هذا التناقض، وإن لم يكن جديداً على آلية عمل مؤسّسات الدولة السعودية، إلّا أنه يكاد يمثّل السمة الأبرز للعهد «السلماني». تاريخياً، كانت لتوزيع مؤسّسات الحُكم بين أقطاب العائلة الحاكمة انعكاسات على طبيعة انقسام التيّارات الشعبية وتفاعلها مع المؤسّسة/ العائلة، وسقف الحريات، وآلية اتخاذ القرار في الديوان الملكي نفسه. بيد أن عملية تصفية مراكز القوى، التي قام بها ابن سلمان، وضعت حدّاً لكلّ ما تَقدّم، وصولاً إلى مشهدٍ يحتكر فيه الحُكمَ قطبٌ ملكيٌّ واحد، إن لم يكن فرداً واحداً، معيداً تشكيل المجالَين السياسي والاجتماعي في المملكة بشكل غير مسبوق. وذلك ما ينعكس في توصيات التقرير المُعَدّ في خريف عام 2019، حيث يجري التحذير من مغبّة «إعطاء مساحة آمنة للشباب لمناقشة قضايا اجتماعية على مواقع التواصل والجامعات»؛ كونه «سيؤدّي إلى تكوين أفكار لا تتماشى مع الدولة، وقد يقومون (الشباب) باختيار منصّات غير علنية للتعبير عن أفكارهم». وقد تمّ تطبيق هذه التوصية بشكل مباشر، عبر إلغاء هامش حرية التعبير في المجال العام، بل وملاحقة مجموعات وسائل التواصل الخاصّة والمغلَقة، واختراق أجهزة المشاركين فيها، واستهدافها.
من ناحية أخرى، وفي إطار محاولة إضفاء طابع علمي على الدراسة أيضاً، استند مُعدّوها إلى شواهد تاريخية لحراك اجتماعي ذي خصوصية سعودية، قائم على إرسال نخب ومثقّفين العرائض إلى صاحب القرار، بدءاً من ما يُطلَق عليه «مذكّرة النصيحة» مطلع التسعينيات، وصولاً إلى «دولة الحقوق والمؤسسات» في الأشهر الأولى من عام 2011. يرتكز التقرير على أطروحة مفادها تزامن أيّ حراك داخلي في السعودية مع حدثٍ ما في الوطن العربي، لتأتي كلّ من «العريضة المدنية» و«مذكّرة النصيحة» كردّ فعل على حرب الخليج، وعريضة «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله» أو «عريضة الرؤية» كإحدى تبعات أحداث الحادي عشر من أيلول. وبينما جاء بيان «دولة الحقوق والمؤسسات» على إثر الاحتجاجات العربية بداية العقد المنصرم، إلّا أن الدراسة ألحقته بتبعات أحداث أيلول، في ما يبدو تحاشياً لذكر «الربيع العربي». هذه العلاقة بين الحراكَين الاجتماعي والسياسي في السعودية وبين الأحداث الخارجية صائبة، وهي تُعدّ من الشواهد على أن الحالة الريعية الخليجية لا تسمح بتولّد حراك من مفاعيل داخلية، بقدر ما هي ردّة فعل ومحاولة من قِبَل النُّخب الثقافية لاستغلال أزمات الوطن العربي في تسجيل النقاط والضغط على العوائل المالكة، كما حصل في حالة «العريضة الإصلاحية» في الإمارات عام 2011، والتي تبعها اعتقال عرّابيها وسحْب جنسياتهم.
أعادت السلطة صياغة علاقة المجتمع السعودي مع الحرب على اليمن عن طريق الإشغال


وتعكس طبيعة نصوص تلك العرائض محاولة كتّابها تكييف الأحداث السياسية لدفْع الدولة باتجاه الإصلاحات، عبر استغلال السرديات الرائجة التي تتزامن مع كلّ عريضة، كنبذ الإرهاب والتطرّف والتحذير منهما بعد سلسلة تفجيرات لتنظيم «القاعدة»، أو الحديث عن الفقر وإدماج الشباب والانتخابات والحريات بُعَيد الاحتجاجات العربية، أو مجرّد توظيفها في صورة تحذير من أن ما يحدث حولنا مصير خطير يجب تجنّبه؛ وعليه، على الدولة المبادرة إلى الإصلاحات. يشير الإصلاحي السعودي السابق، وأحد أبرز الوجوه المرتبطة بحركة العرائض، علي الدميني، إلى العديد من الإشكاليات المتقدّمة، في كتابه المُعنون «زمن السجن أزمنة الحرية»، حيث يشير إلى أن أحد أغراضها يتمثّل في دعم جناح من العائلة المالكة يميل إلى الإصلاح بوجه الجناح الآخر، أي بتعبير أوضح، اللعب على تناقضات العائلة. أمّا الإشكالية الثانية، والتي تعكس العجز عن توليد حشد شعبي داخلي، فتتمثّل في أن أصحاب البيانات يجدون أنفسهم، بعد إصدارهم بياناتهم، في حيرة في ما يمكن عمله؛ فلا الجماهير تحتشد، ولا العائلة المالكة تستجيب، وهنا تأتي عمليات اعتقالهم وحظر سفرهم كـ«صليب معنويّ» على حدّ تعبير الدميني.
هذه الخلفية التاريخية تتيح فهْم الواقع السعودي اليوم، وذلك على ضوء تصنيف «مركز دعم اتخاذ القرار»، العدوان السعودي على اليمن أو ما يُسمّى «عاصفة الحزم»، كأحد «الأحداث الكبيرة في المملكة»، والذي تشير الشواهد التاريخية إلى أنه سوف يتبعه حراك اجتماعي وسياسي، وهذا ما يشوبه قصور كبير. فعلى رغم بقاء أمور جوهرية على ما هي عليه، إلّا أن السعودية شهدت تغيّرات بنيوية كبيرة، تتجلّى أوّلاً في تراجُع حالة التناقض الداخلية بين أجنحة العائلة المالكة؛ فلا مجال واسعاً اليوم للعب على هذه التناقضات، ومساحة حرية التعبير التي كانت حقيقةُ تعدّد مراكز القوى تسمح بخلْقها، تقلّصت تحت أثر الخوف من المساءلة والقمع. أمّا التَّغيّر الآخر فيتجلّى في احتواء «رؤية 2030» للعديد من النُّخب الإصلاحية التي ارتأت الاندماج مع إصلاحات الأمير الشاب، خصوصاً أولئك من ذوي الميول الليبرالية؛ أو محاولة الانكفاء التي لم تُنجِهم من المساءلة، حيث اختطفت السلطات قبل أسابيع فقط، عامر الفالح، ابن الدكتور متروك الفالح، ليغرّد الأخير مستجدياً الإفراج عن ابنه، مؤكداً أنه ليس له أيّ «نشاط سياسي أو حقوقي أو في المجال العام». ويُعدّ الفالح أحد أبرز وجوه حركة العرائض الإصلاحية، إلى جانب علي الدميني، والدكتور المرحوم عبدالله الحامد، والأخير هو الوحيد الذي لم يبدّل مواقفه، ليلاقي مصرعه بسبب الإهمال الطبّي في السجن عام 2020، ويتحوّل إلى رمز للحركة الإصلاحية السعودية.
ومن بين العوامل المضعّفة من إمكانية حدوث ردّة فعل على فشل «عاصفة الحزم»، أن السلطة، وبعد استخدامها ذوي الميول الإسلامية في التحشيد للحرب، قد أقصتهم من المجال العام تماماً بين المعتقلات والهجرة. وعليه، تحوّلت مواقفهم، على إثر تناقضهم الطارئ مع السلطة، إلى مناهَضة الحرب ومساءلة جدواها، ولكن في الخارج. ويُضاف إلى ما تَقدّم، أنه وفي أعقاب مرحلة التحشيد لدعم مشروع العدوان، أعادت السلطة صياغة علاقة المجتمع السعودي مع هذا المشروع، وذلك عن طريق الإشغال، حتى باتت الحرب على اليمن، من منظور أغلب الجمهور السعودي، هي تلك التي تقع في مكان بعيد ونسمع عنها في بعض الأحيان، فيما تكاد أصوات المضادّات الجوّية، وتأثير العمليات النوعية للقوّة الصاروخية والمُسيّرة اليمنية، هي الصلة الوحيدة التي تُذكّر السعوديين بأن دولتهم تخوض حرباً باسم مصلحتهم. وعليه، وعند الحديث عن نهاية الحرب، سيكون من المبالغة توقُّع ردّة فعل شعبية؛ فلا وجود لنُخب ذات هوى إصلاحي ستحاول استغلال الموقف لتحصيل مكتسبات إصلاحية على شاكلة حركة العرائض، فيما عموم الشعب غارق في همومه المعيشية أو في وحل الثمالة الاستهلاكية المهندَسة من قِبَل الدولة. ولعلّ الواقع المتقدّم يمثّل أحد جوانب مآسي العدوان، لناحية اغتراب السعوديين عن فواجع إخوتهم في اليمن وتجاهلهم إيّاها. وإذا كانت مفاعيل الهزيمة السعودية لن تشمل - على الأرجح - ردّة فعل داخلية عارمة، إلّا أنها حتماً ستعمل على نحت بطيء لشرعية السلطة وجرحٍ لمكانتها، وهو ما سيتفاقم زمنياً بشكل مطّرد، بالتوازي مع فشل الرهان على فُقاعة الوعود الاقتصادية الوردية التي تعتاش عليها السلطة اليوم، خصوصاً مع إقبال المنطقة على عقد مليء بالتحوّلات الكبرى.