يحلّ الربيع، فيتراجع الطلب على الغاز. إلّا أنه، في معركة محاصرة روسيا، وبغضّ النظر عن أخبار الطقس وأرقام سوق الغاز، تظلّ الحاجة الأميركية إلى خفض أسعار النفط عموماً ملحّة. لجعل الأمر ذا جدوى، يحتاج البيت الأبيض إلى ضخّ ملايين براميل البترول الإضافية يومياً أيضاً. اللجوء إلى الاحتياطي لا يفي وحده بكسب جولة العقوبات، ولا شعار الطاقة البديلة طبعاً. عرف حاكم قصر اليمامة في الرياض هذه الحقيقة، فراح يتصرّف على أساس تلك المكانة. فهم النظام السعودي أن لا بديل أميركياً منه لخوض الحرب ضدّ موسكو. كبْح جماح الأسعار أساس في جعل العقوبات فعّالة، من جهة، وجعلها لا تبدو كَمَن يعاقب نفسه، من جهة ثانية. عامل الوقت مهمّ؛ الحاجة هي إلى إنتاج متوفّر سريع، لا خطوطٍ جديدة تتطلّب وقتاً. وكلّها مواصفات تنطبق على المنتَج السعودي. «تملّق» البيت الأبيض لفنزويلا وإيران يؤكد الاعتراف بالحسبة، ويثبّت تهمة عدم جاهزية بايدن للمعركة. حين يطلب الأميركيون من السعوديين زيادة إنتاج النفط، ويرفض الأخيرون التلبية، فإن الرياض تعلن بموقفها أنها لا تخشى سؤال التبعات؛ تبعات رفض الاصطفاف مع الغرب.للمرّة الأولى، يواجه الخليج استحقاق التموضع الدولي في ظلّ حيثيات مختلفة عن حيثيات الحرب الباردة في القرن الماضي. تحضر هنا تأثيرات معطى أن السعودية، كما الإمارات، تنسج منذ مدّة، وبدافع التحوّط الاستراتيجي، انزياحاً جدّياً نحو تنويع الشراكات، مع الصين وروسيا والهند. وقد آن أوان اختبار فوائد هذه السياسة. وعليه، أيّ خطوة سعودية يمكن أن تُقرأ بأبعد من مناورة صفقة الصواريخ الصينية في الثمانينيات. يقول النظام السعودي، بتمرّده، إن الاصطفاف الدولي المطلوب استحقاق كبير، يجب تحويله إلى فرصة وجعل الثمن كبيراً، فمن غير الجائز بالتالي التسرّع والهرولة المجانية غرباً. وقد التقطت المملكة أن النفط لا يزال قيمة أساسية في المعادلات التجارية، وبالتالي السياسية، وأن من المبكر التعامل وفق شروط المستقبل، حيث يُتوقّع أن تزيح الطاقة البديلة، نظيرتها التقليدية عن العرش. ثمّ إن الحرب نفسها خلقت مساراً مختلفاً عن المرسوم في عالم الطاقة، طرح متطلّبات مستجدّة ملحّة، وعاد بأسعاره المرتفعة بالفائدة على خزائن السعودية.
الحرب في أوكرانيا زخّمت الحنق السعودي على إدارة جو بايدن. لا تقيم الأخيرة وزناً لمطالب السعودية على نحو مُرضٍ، فيما هي ماضية في تسخير كلّ ما بوسعها في صالح الأولوية الأوكرانية، وتُواصل في الوقت عينه محاولات العودة إلى الاتفاق النووي، بينما هواجس الرياض الأمنية، في الداخل وفي اليمن ومع إيران، لا مكان لها على جدول بايدن المنكفئ عن المنطقة، والذي أصرّ على عزلة محمد بن سلمان، بحجّتَي جريمة قتل جمال خاشقجي ودعم دونالد ترامب انتخابياً. على هذا الأساس، عدَلت الرياض عن سياسة الميلان مع العاصفة «البايدنية» في مسائل «حقوق الإنسان والحريات»، وأقدمت على أكبر عملية إعدام في تاريخها. لا يمكن هنا مجاراة الرأي القائل إن العملية أتت فقط بحسابات مناخ داخلي. هي تُشدّد بذلك على أولوية حاجاتها الأمنية التي يمكنها أن تنصرف لمعالجتها منفردة بالطريقة التقليدية.
لحْظة الحاجة الأميركية الملحّة إلى موقف سعودي لم تكن متوفّرة قبل الحرب، وليس أكيداً تكرارها في فرصة أخرى، وهو ما يعني أن ورقة حظّ رابحة سقطت في حسابات الرياض، ينبغي صرف كامل قيمتها. يرى محمد بن سلمان أن العلاقة مع الولايات المتحدة علاقة سامّة، حبٌّ من طرف واحد؛ واستحقاق الحرب في أوكرانيا فرصة لتصحيح المسار لا يجوز تفويتها حتى لو تطلّب الأمر إعادة تكرار تجربة التباعد إبّان ولاية باراك أوباما، فكيف إذا كان الأمر مربحاً الآن مع التكسّب الهائل من ارتفاع سعر البرميل. اختار ابن سلمان وسائل الإعلام العبرية لتسريب معلومات عن أن الرياض ذاهبة إلى شبه قطيعة مع البيت الأبيض. والقطيعة تعني أن ابن سلمان سينتظر سنوات لملاقاة الجهود الخارجية والداخلية للتدخّل بأكثر من وجه في الانتخابات الأميركية المقبلة، وسيراهن على ضعف بايدن داخلياً وصولاً إلى ترقّب احتمال الإطاحة به.
لكنّ الصخب الذي يتعمّد ابن سلمان إثارته، سواءً بحفلة الإعدامات، أو بمهاجمة بايدن في مقابلته الأخيرة، أو بالتقارب مع الصين وإشاعة تسريع مشروع بيع النفط باليوان، والحرص على التنسيق مع روسيا، جميعها استفزازات تشي بترك الباب موارباً، وتُحتّم عدم الاستعجال في استبعاد وجود رغبة سعودية في استدراج صفقة مناسبة مع الأميركيين، أكبر من اتّصال من بايدن، أو زيارة، أو عرض كعرض بوريس جونسون، أو إعادة تفعيل منصّات الدفاع الجوي، بل تغيير كامل المقاربة الأميركية في المنطقة، ولدور ابن سلمان شخصياً. العودة إلى مغازلة إسرائيل تشي أيضاً بوضع الأزمة في إطار «أزمة حلفاء أميركا في المنطقة مع إدارة بايدن»، لا أزمة موقف منفرد. ما يقوم به ابن سلمان على وجه الدقّة، هو استغلال الفرصة لاستنفار وتحريض جبهة ضغط معارضة لقيادة الديموقراطيين وسياستهم الخاصة، داخل محور أميركا وحلفائها، تمتدّ من الجمهوريين داخل أميركا إلى الحلفاء الممتعضين في الخارج، لا الاصطفاف الكامل مع روسيا. حيادُ منتِج نفطي كالسعودي، في معركة اصطفاف كوني كهذه، يبدو ذا تبعات جسيمة، إلّا أن الاصطفاف السهل، كالاصطفاف القطري، لن يعود بنفع استراتيجي بيّن وملائم كمكافأة الدوحة بتصنيفها حليفاً من خارج «الناتو»، تقول الرياض.