قد يكون محمد بن سلمان تَعلّم كثيراً من تجاربه الفاشلة التي انخرط فيها منذ صعوده إلى الحُكم، وقد يكون غَيّر سلوكه قليلاً، إلّا أن ما وصل إليه الآن من استقرار نسبي، يعود في الأساس إلى جملة ظروف موضوعية تَوفّرت لنظام يملك إمكانات عالية للاستفادة منها، وليس إلى تلك التجارب فقط. وحدها أزمة أوكرانيا، مثلاً، نقلتْه في غضون أشهر قليلة من سياسيٍّ معزول عالمياً كان كثيرون يترقّبون لحظة سقوطه، إلى زعيم نافذ يَطلب الجميع رضاه، بمَن فيهم قادة الدول العظمى. يعود الفضل الأكبر في ذلك إلى حساسية سلعة النفط في الظرف الصعب الذي يمرّ فيه العالم، نتيجة الانتقال الكبير من عالم أحاديّ القطب إلى متعدّد القطبية، حيث تصبح القوى الإقليمية ذات وزن أكبر، وأكثر جاذبية حينما تتنافس عليها الدول الكبرى الساعية إلى حجز مكانتها المرموقة في العالم الجديد. ولذا، يُسجَّل تزايد في أدوار تلك القوى، مِن مثل تركيا وإيران وغيرهما، بما يعطي بعضها ميزة الحصول على ثمن أكبر لانحيازها إلى هذا الفريق أو ذاك، ويتيح لبعضها الآخر الاستفادة من التعامل مع كلّ الأطراف، وفق المصلحة. السعودية، وخلْفها عدد من الدول الخليجية التي تتّفق معها، يناسبها الخيار الثاني، بالنظر إلى أن النفط يضعها في موقع القادر على تحقيق استفادة أكبر منه، كما أن طبيعة مصلحتها، أو مصلحة نظامها، تُحتّم عليها البقاء في هذه الدائرة. قبْل عودة بايدن إلى واشنطن من زيارته للسعودية، اتّضح أن دول الخليج لا ترى فائدة لأنظمتها في خفْض أسعار النفط، كما اتّضح أن أميركا لم تَعُد قادرة على الضغط عليها لفعل ذلك. وجاء اتّصال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بابن سلمان غداة قمة جدة، واتّفاقهما على استمرار صيغة التعاون ضمن «أوبك بلس» تأكيداً لهذا الواقع. أكثر ممّا تَقدّم، فَهم ابن سلمان أن العودة إلى صيغة «النفط مقابل الأمن» مع أميركا، ما هي إلّا خديعة؛ فواشنطن لم تَعُد قادرة على توفير الأمن، وحتى إذا استطاع هو القيام بما عليه في شِقّ النفط، فلماذا يضع نفسه كلّياً في المعسكر المتراجِع، بعد أن أدرك بالتجربة التي أُرغم على خوضها نتيجة تخلّي أميركا عنه، أن مصلحته ليست مع طرف بعيْنه، وإنّما في التعامل مع الجميع على أساس المصلحة المتبادلة؟
ينطبق ذلك على رغبته في الاستمرار في التقارب مع إيران، والذي سيشهد تطوّراً نوعياً باجتماع وزيرَي خارجية البلدَين في بغداد قريباً، بعد مسار طويل من المحادثات الأمنية السرّية، حتى وهو يقوم بالتطبيع مع إسرائيل، والذي بدوره ساعده ليَفرض على بايدن التعامل معه والتسليم بتولّيه العرش. كذلك، مثّلت زيارته الأخيرة لليونان عنصر توازن آخر، بعد المصالحة مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي سيتعامل معه وليّ العهد وفق ما يخدم مصلحته.
ابن سلمان صنع فُرصته في الحكم، ومعها إمكانية الإطاحة به مستقبلاً


وفي حالة إيران، مثلاً، خسر ابن سلمان رهاناته كلّها في مواجهتها، وتحديداً في اليمن، حيث مثّلت الحرب التي افتعلها هناك قبل سبع سنوات، قصة الفشل الأكبر له، ويأمل في أن تُساعده طهران على طيّ تلك الصفحة، علماً أن الإيرانيين أبلغوه بأن القرار اليمني يُؤخذ في صنعاء. أمّا الاتّفاق مع بوتين في «أوبك بلس»، فيعطي منتِجي النفط مرونة أكبر في التحكُّم بالأسعار، لأنه يجعل كارتيل الإنتاج أشبه بمجموعة احتكارية، بخلاف ما كان عليه الأمر قبل سنوات قليلة، حين كانت السعودية وروسيا وغيرهما من كبار المنتجين يتصارعون في ما بينهم على الحِصص السوقية في العالم، ما رفع بشكل كبير المعروض وخفّض الأسعار. وقد استفادت الولايات المتحدة وأوروبا والصين والهند واليابان وغيرها، بالفعل، من هذا التنافس، باعتبار أن الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي يناسبها انسياب إمدادات النفط الرخيص.
لا يعني ما تَقدَّم أن ابن سلمان لم تَعُد لديه مكامن ضعف، أو لم يَعُد لديه ما يخشاه. فقد حدثت في المقابل، تَغيّرات كثيرة لغير مصلحته لن يعود الزمن بها إلى الوراء. صارت هناك، مثلاً، معارضة سعودية قوية لها حلفاء، تضمّ قسماً كبيراً من أفراد الأسرة التي جاء ابن سلمان إلى الحُكم باسمها، ولكن غصْباً عن غالبيتها. وهكذا، صَنع ابن سلمان فُرصته في الحكم، ومعها إمكانية الإطاحة به مستقبلاً، ولا سيما أنه يرتكز في قوّته إلى نقطتَين أساسيتَين: الأولى، العلاقة بإسرائيل؛ والثانية، القمع القاسي للمعارضة، وهاتان وصْفتان لتعزيز المعارضة على المدى البعيد، إلى جانب تبديد الثروة - من دون بناء اقتصاد قوي متنوّع يستفيد منه المواطنون في مرحلة ما بعد النفط - على شراء الولاءات والحمايات. يُضاف إلى ما تَقدّم، أنه في اللحظة التي تتراجع فيها أهمية النفط لسبب من الأسباب، مِن مِثل أزمة اقتصادية عالمية، أو إغلاق نتيجة وباء، أو تطوُّر كبير في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، ستَفقد السعودية الكثير من تأثيرها. كما أن التطبيع مع إسرائيل، خاصة بالشكل الذي خرجت مشاهده إلى العلن، وشملت إسرائيليين يزورون البقاع المقدّسة المحرَّمة على غير المسلمين، يساهم في ضرب صورة وليّ العهد أمام شعبه المُحافظ، ويضرب الشرعية التي يحتاج إليها حاكم جديد مثله، خاصة أن أصواتاً في الأسرة الحاكمة، بدأت تتذمّر من سماحه بتجوّل هؤلاء بِحرّية في تلك الأماكن، لا لأسباب دينية أو مبدئية، وإنّما خوفاً على مستقبل حُكم الأسرة.
وسط ذلك كلّه، أطلق ابن سلمان، مدفوعاً بجرعة الثقة الزائدة التي حصل عليها أخيراً، والتي أعادت تغذية الشعور لديه بأنه قادر على تحقيق أيّ شيء، مشروع «خطّ المرايا» المؤلَّف من هيكل زجاجي يتّسع لخمسة ملايين شخص، بارتفاع 500 متر وطول 120 كيلومتراً، وبتكلفة تريليون دولار. مشروعٌ يستهدف، على ما يبدو، بيْع السعوديين أوهاماً جديدة، لكن هذه المرّة لن يصدّقه كثيرون، لأن مشاريعه الطموحة التي أعلن عنها سابقاً، ضمن «رؤية 2030»، وخاصة مدينة «نيوم»، ما زالت رمالاً في الصحراء.