لا تُنكر إسرائيل، في بياناتها المُسرَّبة إلى الإعلام أخيراً، واقع علاقاتها العسكرية والأمنية مع كيانات وأنظمة عربية، من بينها أنظمة خليجية مُطبِّعة حديثاً. إذ باتت فوائد الكشْف عن هذه العلاقات تفوق عوائد التستُّر عليها، إلى حدّ أن هذا الكشْف بذاته أضحى جزءاً لا يتجزّأ من عقيدة الكيان الأمنية، في مسْعاه لتعزيز مكانته وتموضعه الدفاعي والهجومي، في مواجهة أعدائه. بدورها، لم تَعُد دول الخليج المُطبّعة أو تلك السائرة على خُطاها، تُخفي اهتمامها بالحصول على «مظلّة حماية» إسرائيلية، لا في وجْه إيران فقط، بل أيضاً في وجْه شعوبها التي لا يمكن أن يؤمن غضبها على طول الخطّ، وأيضاً سعياً للرضى الأميركي من بوّابة تل أبيب. من هنا، يُرصَد التباين بين منطلقات إسرائيل في علاقاتها العسكرية والتسليحية، وبين منطلقات الأنظمة الخليجية، وإنْ اشترك الجانبان في الخوف من «العدوّ» الإيراني.من ناحية إسرائيل، تُعدّ صناعة السلاح واحداً من أهمّ مقوّمات اقتصادها وسياستها الخارجية، الأمر الذي حوّل هذا القطاع عبر السنوات إلى ذُخر لا يمكن الاستغناء عنه، وإنْ كان لا يزال يعاني تخمة إنتاجٍ مقابل العرض، مع العلم أن وارداته لا تقلّ عن سبعة مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن تأمينه سوق عمل للإسرائيليين، وتعزيزه مكانة الكيان في الخارج، ولو من خلال صفقات مع حكومات وكيانات ذات سجلّ قاتم في مجال حقوق الإنسان، بحسب التقييم الغربي نفسه.
وبالنظر إلى أن ما تُنتجه مصانع السلاح الإسرائيلية، لا يُستهلَك منه داخلياً إلّا بحدود العشرين في المئة، فقد كان على المؤسّستَين السياسية والأمنية أن تتيحا لعمليات التوريد والسمسرة، عبْر أطراف ثالثة، قدْراً كبيراً من المرونة، بهدف تصريف بقيّة الإنتاج. وهكذا، فإن المحافظة على القطاع، الذي يعمل فيه أكثر من 60 ألف إسرائيلي، تُعدّ أهّم من أيّ «اعتبارات أخلاقية» أو مراعاة للقوانين الدولية، إلى حدّ أن إسرائيل قبلت، على مرّ السنوات الماضية، أكثر من 99.8 بالمئة من طلبات التصدير لمصلحة شركات وسماسرة في الخارج. بناءً عليه، تحيط إسرائيل بالتكتّم معظم مبيعات السلاح التي تُتمّها، وخصوصاً مع الأنظمة «المارقة»، وتُبقي المعطيات المتّصلة بها ضمن المحصّلات العامّة والكلّية، من دون تفاصيل أو جهات أو أسماء، إلّا في ما يتعلّق بالصفقات مع دول غربية أو ما شابهها من أنظمة. ومن هنا، تتفعّل الرقابة لمنع النشر حول الصفقات «المشبوهة»، أو حتى إعادة نشْر معلومات تَسرّب بخصوصها في الخارج، فيما تتّكل الحكومة، من أجل تسهيل عملية البيع، على وسطاء. ووفقاً لبيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، ثمّة أكثر من 1000 شركة خاصة في إسرائيل تعمل في مجال تصدير الأسلحة، وحوالي 1600 شركة لديها تراخيص تصدير أمنية.
من ناحية إسرائيل، تُعدّ صناعة السلاح واحداً من أهمّ مقوّمات اقتصادها وسياستها الخارجية


في الحالة الخليجية، تفرض عوامل استثنائية نفسها على القرارات الإسرائيلية بهذا الخصوص، والحديث هنا يدور تحديداً عن تبايُن في النوايا بين البائع والمشتري. بالنسبة إلى إسرائيل، تبدو الحاجة ملحّة إلى تظهير التعاون الأمني والعسكري مع الأنظمة الخليجية، لِما له من فائدة في درْء التهديدات، وإنْ نظرياً، قُبالة عدوّ الكيان الأول، إيران. وعلى هذه الخلفية، فإن أيّ صفقة أو تفاهم أو إعلان نوايا أو حتى مجرّد تداول في الغرف المغلقة أو سؤال جانبي، ما بين الخليجيين والإسرائيليين، يجري العمل سريعاً على تظهيره. في المقابل، لا تبدو دول الخليج توّاقة إلى كشْف نواياها تجاه الكيان، وتحديداً في ما يتعلّق بالعلاقات الأمنية والعسكرية والاستخبارية والتسليحية، وهو ما يُعزى بشكل أساسي إلى الخشية من ردّ فعل الجار الإيراني على علاقات كهذه. باختصار، ما تَطلبه تلك الدول من معونة إسرائيلية، قبل التطبيع وبعده، مرتبط بشكل رئيسي بتشبّث حُكّامها بسلطاتهم ورغبتهم في الحفاظ عليها، والسعي لقمْع أيّ تمرّد ولو مكتوم ضدّها، وهذا هو يفسّر هرولتها إلى تحصيل معلومات استخبارية أو أدوات تجسّسية من إسرائيل، لتشديد الخناق على مُواطنيها وسكّانها، فيما شراء الأنظمة العسكرية وغيرها، في شقّه الاعتباري، متّصل بطلب رضى الولايات المتحدة. ومن بين ما تمّ الكشْف عنه في الإطار المتقدّم، برنامج «بيغاسوس» السيبراني الذي أنتجته شركة «NSO» الإسرائيلية، واستخدمتْه الأنظمة الخليجية ضدّ معارضيها. والجدير ذكره، هنا، أن حادثة قتْل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، نهاية عام 2018، شكّلت بداية لتدحرج كُرة «الفضائح» المتّصلة بـ«التعاون» المُشار إليه بين إسرائيل من جهة، والإمارات والسعودية والبحرين والمغرب وآذربيجان والهند وغيرها، من جهة أخرى. وبحسب المنشورات الإسرائيلية، فإن واحداً من أهمّ المسبّبات التي دفعت تل أبيب إلى تزويد العواصم الخليجية ببرنامج التجسّس المذكور، وغيره من الأدوات التجسّسية، هو دفْع تلك الأنظمة إلى تعميق تطبيعها مع إسرائيل على نحو معلَن، وهو ما لا يزال الخليجيون يتحفّظون عليه بالطبع.
مع ذلك، تفيد المعلومات المنشورة في الإعلام العبري (غلوبس الاقتصادية 29/10/2020) بأن بيْع الأسلحة الإسرائيلية، إلى جانب التقنيات التجسّسية، لا يزال يتعاظم منذ توقيع «اتفاقيات آبراهام»، فيما تأمل تل أبيب أن تؤدّي هذه الاتفاقيات إلى زيادة ملموسة في صادراتها الأمنية إلى دول الخليج، التي تُعدّ من أهمّ «مجموعات الدولة» من حيث حجم مشتريات الأسلحة. وبحسب «غلوبس»، فإن العديد من الدول الخليجية أعربت بالفعل عن اهتمام مبدئي بشراء أنظمة دفاع إلكترونية ضدّ الصواريخ، بهدف حماية المنشآت النفطية خصوصاً، إلّا أنه بحسب مصدر إسرائيلي مطّلع، لا تزال هذه النيّات في إطار مرحلة أوّلية في مسار. ويبيّن تقرير الصحيفة أن الاهتمام الخليجي ينصبّ أيضاً، من بين أمور أخرى، على شراء نظام حماية للمدرّعات والدبّابات وناقلات الجند المدرّعة، ومنظومة «معطف الريح» التي تجْمع بين التشويش الإلكتروني والاعتراض المادي للصواريخ المضادّة للدروع، فضلاً عن أنظمة دفاعية مضادّة للصواريخ المتوسّطة والطويلة المدى، والصواريخ التي تُطلَق من الطائرات من دون طيّار.
ما الذي يحول دون إبرام صفقات كهذه إلى الآن؟ يبدو أن ثمّة حائلَين رئيسيّين - وإن كان التقدير الإسرائيلي يفيد بإمكانية تجاوزهما -: أوّلهما، أن صفقات كهذه من شأنها إثارة الجار الإيراني، وهو ما تخشاه الأنظمة الخليجية؛ وثانيهما، الخشية الإسرائيلية من تَسرّب التقنيات المَبيعة إلى أعداء إسرائيل، أي إيران وحلفائها. ومن هنا، فإن الخيار الأمثل بالنسبة إلى الطرفَين حالياً، هو الكتمان، مع ضمان إسرائيل استمرار سيطرتها على الأنظمة والتقنيات التسليحية، وإن تَحوّلت الأخيرة إلى مُلكية خليجية. ومن هذا المنطلق، وفي حال صحّت التقديرات، تكون إسرائيل قد حقّقت من وُجهة نظرها الموازنة المفقودة، والمتمثّلة في نقْل «حدودها» إلى محاذاة إيران، تماماً كما نقلت إيران حدودها، منذ سنوات، إلى محاذاة الكيان.