عندما وضع الاستعمار الفرنسي يده على تونس في القرن التاسع عشر، كان هدفه الرئيسي استغلال الأراضي لإنتاج القمح بهدف إمداد سكان فرنسا. لتحقيق هذا الهدف، أسّس الاستعمار مراكز تعليمية وبحثية، أهمها المعهد الزراعي الكولونيالي، الذي يمكن أي أحد توقع مهمته من اسمه. فهذا المعهد كان مخصصاً لتدريب المهندسين الزراعيين والمرشدين المحليين وتطوير الإنتاج الزراعي لتحسين إنتاجية الحبوب، وكل ذلك بهدف خدمة المشروع الاستعماري. وعندما تحررت تونس، تحولت المعاهد الكولونيالية إلى مراكز بحثية وطنية، ولكنها لم تبدّل مقاربتها للزراعة، بل تبنّت تلقائياً نمط الإنتاج المكثّف الذي يرتكز على المدخلات الحديثة ويصلح للمساحات الزراعية الكبيرة التي تملكها نسبة صغيرة من الأثرياء. أما أصحاب «الحيّزات» الصغيرة، فلم تلتفت إليهم الأبحاث بجدية، ولم يكن أمامهم إلا خيار الانخراط في قطاع زراعي ـــــ تجاري، ليسوا مؤهلين أصلاً للنجاح فيه. وقد كان من نتائج ذلك، انعدام أمنهم الغذائي واتكالهم أساساً على القمح المدعوم المستورد من فرنسا وغيرها من بلدان الاستعمار. نتيجة أدت إلى أخرى، هي ازدياد نسب البطالة والهجرة إلى الخارج... والشارع أخيراً، وهم الذين شكلوا شرارة الثورة، كما حصل في سيدي بو زيد. تشير هذه القصة التي تتناقلها بعض وسائل الإعلام التونسي إلى الجذور الفلاحية للانتفاضات العربية. وإذا نظرنا إلى سائر البلدان العربية التي تشهد تحركات شعبية، نجد النمط نفسه يتكرر، وأن الفلاحين والريفيين المنتقلين إلى المدن، لا صغار البورجوازيين _ عشاق الفايسبوك _ كما تقول الرواية الإعلامية السائدة غرباً وشرقاً، هم من أشعل الثورات. من فلاحي الفيوم والدلتا في مصر إلى النازحين من جبال اليمن وسهول تهامة، إنها ثورة الذين قدموا أجسادهم قرباناً للحرية. المجد لكم يا أبناء الأرض.