أحمد بهاء الدين شعبان*«غضب من الله أنزله من عليائه على آكلي لحم الخنزير!». هكذا صوّر بعض رجال الدين في مصر قضية وباء «إنفلونزا الخنازير». لم يعنهم في كثير أو قليل الخطر الداهم الذي يحيق بالحياة، ولا ما يتهدد الملايين من مواطنيهم وأشقائهم في البشرية أو الوطن.
لكن هذا الموقف المفارق لم يكن جديداً على نوعية من المشايخ أداروا الظهر للناس ومشكلاتهم، وانحازوا لتفسيرات ضيقة الأفق للدين ولتعليماته، وهو الذي حث على البر والعدل والرحمة. غير أن الأخطر من هؤلاء، الذين تحرّك معظمهم النظرة الضيقة والتعصب، هو تلك الفئة من «كبار رجال الدين»، التي تستخدم موقعها السامي من أجل تبرير القائم، ويستخدمها «السلطان» لمحاربة خصومه، وتحسين صورته، وتسويغ قراراته، ومقاومة عملية التغيير. هؤلاء كانوا دائماً عوناً للظلم، ويداً من أيدي البطش، واستخدموا سلاح التحليل والتحريم لخدمة أغراض الفرعون أو الوالي أو الخليفة أو الملك أو الرئيس أو الزعيم.
فطالما كان لرجال الدين، منذ كهنة مصر القديمة، دور، وأي دور، في دعم الفرعون ومساندة الحاكم، والدفاع عن مصالح طبقتهم المميزة من خلال الدفاع عن السلطة ورموزها. وظل هذا الدور محفوظاً على مدى التاريخ، باستثناء فترات محددة انحاز فيها كبار المشايخ إلى الشعب وقضاياه، وهي فترات الثورات والغليان الوطني، مثلما حدث في ثورات القاهرة على الحملة الفرنسية، والتحركات الشعبية التي انتهت بتولي محمد علي حكم مصر عام 1805، ووقائع الثورة الوطنية الكبرى عام 1919، قبل أن «تعود ريما لعادتها القديمة».
وفي العقود الأخيرة، وبالتحديد منذ عهد «الرئيس المؤمن» محمد أنور السادات، أصبح سلاح الدين واحداً من الأسلحة الجبارة التي استخدمت بدهاء وبكثرة، وبلا تحوّط، من أجل دعم سياسات النظام وانحيازاته في معاركه التي لم تهدأ للحظة: ضد الخصوم من بقايا العصر الناصري، وضد الشيوعيين في الجامعة والمجتمع، وضد المجتمع نفسه حينما بدأت مسيرة الارتداد عن منجزات عصر عبد الناصر، فاسترجعت أراضي الإقطاع التي منحتها «الثورة» للفلاحين بموجب قوانين الإصلاح الزراعي، وسُلمت مجدداً لأثرياء الريف، وأعيدت المصانع المؤممة للرأسماليين القدامى (محليين وأجانب)، بحجة أن انتزاعها كان ضد تعاليم الدين، وبررت آلة الإعلام الرسمي، وعلى رأسها «مشيخة الأزهر»، ذهاب السادات إلى القدس المحتلة، وتوقيع صلح العار مع العدو الصهيوني، بالاستخدام المغرض للآية الكريمة «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها». وفي المعركة الأخيرة ضد حزب الله، اصطنع مشايخ السلطان حرباً ضروساً ضد خطر وهمي اسمه «الخطر الشيعي». فيما كان أحد قادة هذا الكورس، الدكتور حمدي زقزوق، وزير الأوقاف، يدعو المصريين إلى كسر جدار مقاومة التطبيع مع إسرائيل، والذهاب بتأشيرة إسرائيلية إلى القدس المحتلة، بدعوى دعم أهلها من أبناء الشعب الفلسطيني!
غير أنّ أبرز الأدوار الراهنة لهذه الفئة من «مشايخ السلطان» تأتي، هذه المرّة، في مواجهة حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي الممتد، الذي يهز البلاد منذ نحو خمس سنوات، ويغطيها من شمالها إلى الجنوب، ويكاد لا يستثني فئة أو طبقة أو شريحة في مصر من دون أن تلقي بظلاله عليها؛ ففي مواجهة خطر الإضرابات والاعتصامات، الذي تنامى بصورة هائلة في الفترة الأخيرة، وجّهت السلطة أشياعها من قادة الطرق الصوفية، الذين يبلغ تعدادهم الملايين، من أجل التصدي لهذه الموجة الاحتجاجية العارمة، وفي مواجهة دعاوى مناهضة «توريث» الحكم للنجل جمال مبارك، انبرى أحد أبرز مشايخ الطرق الصوفية، السيد علاء ماضي أبو العزايم، معلناً أن الإسلام لا يعرف من وسائل اختيار الحاكم سوى وسيلتي «البيعة» و«الوصية»، وأن الرئيس مبارك، ما دام قد بويع رئيساً، فله أن يحكم مدى الحياة، وله أن يوصي بالحكم، من بعد عمره المديد، إلى نجله جمال، فهذا الأمر من صحيح الإسلام وليس توريثاً للسلطة، وذكر أن الإسلام لا يعرف شيئاً اسمه الديموقراطية، وأن الحكم الحالي حكم صالح لا ينبغي الخروج عليه، لأنه يحكم بما أنزل الله، ولا يُبطل فريضة من فرائضه.
وبمناسبة الدعوة لإضراب يوم 6 نيسان / أبريل الماضي، ألقت «المؤسسة الدينية» (الشعبية والرسمية) بثقلها في كفة النظام، وخاضت معركة طاحنة تستهدف تشويه صورة أعداء السلطة، واتهامهم بكل نقيصة. فرغم البديهية التي تقول بأن العقيدة الوحيدة التي يتفق عليها المؤمنون كافة، هي عقيدة «توحيد الخالق»، فقد قدم السيد محمد الشهاوي، رئيس اللجنة الخماسية لإدارة أعمال «المجلس الأعلى للطرق الصوفية»، رؤية جديدة لهذه العقيدة باعتبارها عقيدة «توحيد الحاكم»، حين أعلن أن «هناك عقيدة واحدة يتفق عليها جميع رجال الطرق الصوفية في مصر، عن قناعة وإيمان، وهي عدم الخروج على ولي الأمر الحاكم، والطاعة التي نص عليها الإسلام»، مؤكداً أن «الطرق الصوفية لها رأي في مسألة الإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، إذ تراها وسائل عنف ضد الدولة، وهو ما يرفضه جميع أبناء الطرق الصوفية، وخاصة أن العنف لا يحقق أي هدف نبيل»، قاطعاً بأن «الدعوة لإضراب 6 أبريل غير واضح منها سوى أن هناك شخصيات بارزة مصرية، وأياد خفية خارج مصر، تقصد تشويه صورة مصر، والعمل على تحقيق مكاسب شخصية، بإحراج القيادة السياسية وتعريتها»، منهياً حديثه بالقطع بأن «الاستجابة لدعوة الإضراب عار على جبين كل مصري». أما الشيخ مصطفى الصافي، شيخ «الطريقة الصافية»، فقد كرر المعنى نفسه، بتأكيده أن «العنف (وهو هنا يقصد محاولة المواطن البسيط المطحون الدفاع عن وجوده وقوت يومه الشحيح، لا عنف جحافل الأمن المركزي وبلطجية النظام في مواجهة الشعب) ليس من الإسلام الذي ينشد الحفاظ على سلامة المجتمع من الأفكار الخارجية التي تهدف إلى الإساءة لمصر، وتقليل دورها وريادتها في جميع النواحي»، مضيفاً أن «الطرق الصوفية تحرم فكرة الخروج على الحاكم سواء بالإضرابات أو الاعتصامات، وغيرهما من الوسائل غير الشرعية التي تخالف الشرع الذي يدعو إلى طاعة ولي الأمر... إن النقاش والتفاوض السلمي هما المنهج الذي يجب أن يتبعه الجميع لمساعدة ولي الأمر في الخروج من الأزمات والمشاكل التي نعانيها، في ظل وجود أعداء كثيرين للوطن والإسلام، في الداخل والخارج، من الغفير إلى الوزير من مؤيدي الطرق الصوفية يؤمنون بذلك».
وعبّر الشيخ أيمن طه عثمان، شيخ «الطريقة الرحيمية القنائية» عن الأفكار ذاتها، بقوله «إن مشايخ الوجه القبلي يؤمنون بقدرة الرئيس مبارك على إدارة الأمور، وإن اللجوء إلى طرق غير مشروعة هو أمر مرفوض، وليس من الإسلام في شيء... أن فكرة الإضرابات والاعتصامات فاشلة، وإضراب 6 أبريل لن ينجح في محافظات الوجه القبلي، ووراء الدعوة له توازنات ومصالح شخصية وعدائية تستهدف ضرب استقرار مصر».
غير أن هذه الأفكار ليست وقفاً على المؤسسة الصوفية في مصر وحدها، وعلاقتها التاريخية بالسلطة معروفة، ولكنها موقف المؤسسة الدينية الرسمية أيضاً. فالشيخ عبد الفتاح علام، وكيل هيئة الأزهر، يؤكد هذا المنحى العام بقوله «إن الإضرابات والاحتجاجات حرام، وأصحابها آثمون».
إذاً، هناك إجماع بين قادة المؤسسة الدينية، سواء من الطرق الصوفية أو من الأزهر، على وجوب خضوع «العامة» للحاكم، حتى لو نهب واستبد وفسق وعربد، ما دام يسمح لهم بالوجود، ويسمح بميكروفونات الجوامع التي لا تتوقف، وبرامج التكفير والإفتاء بغير علم التي لا تنقطع! أما أن يهوى الحاكم بالوطن إلى حضيض غير مسبوق، فيجوّع الشعب، ويسرق قوت يومه وأمن غده، ويمنح العدو ما لا يناله صاحب الأرض من امتيازات ومكافآت، فهذا أمر لا يهم السادة من «شيوخ السلطان»، مع أن الإسلام يعلمنا دائماً ألا نصمت في مواجهة الظلم، وأن أفضل الجهاد «قولة حق في وجه سلطان جائر».
ومن جانب آخر، لم يتخلف قادة الكنيسة القبطية المصرية عن الركب. فقد انحازوا في «انتخابات» الرئاسة الماضية، وانتخابات مجلس الشعب 2005، إلى الرئيس مبارك والحزب الوطني، وسينحازون في أية «انتخابات» جديدة إليهما، لظنهم أنهما صمام الأمان لأقباط مصر من اجتياح الأصولية الإسلامية البلاد. وبدلاً من حث «شعب الكنيسة» على الغضب ضد الظلم والتمييز، ودعوة «الرعية» إلى الانخراط في النضال الديموقراطي من أجل انتزاع دولة الحرية والعدل والمواطنة والقانون، التي، وحدها، تحمي الحقوق وترسي دعائم الاستقرار الحقيقي، انحازوا، هم أيضاً، كزملائهم من «مشايخ السلطان»، وإن من منطلق مغاير، إلى دولة القهر والاستبداد والتسلط والفساد. بل إلى النظام الذي يتحمل المسؤولية المباشرة عن إطلاق سُعار التعصب الطائفي المقيت في البلاد!
أما الدين الحق فيعلّم المؤمنين الانتصار للحقيقة والتضحية في سبيل الإنسان، والمواجهة الشجاعة للظلم والمفاسد، وويل له من مشايخ السلطان وكهنته، في كل زمان ومكان.
* أحد مؤسسي حركة «كفاية» في مصر