صدر أخيراً كتاب «أبخرة دماء. الشرق الأوسط شهيداً» للمؤرّخ الفرنسي الراحل دومينيك شيفالييه عن دار سندباد ــ آكت سود في باريس، بالتعاون مع دار النهار. الكتاب الجديد منسوج على منوال كتاب سابق لشيفالييه، صدر قبل ثلاث سنوات تقريباً عن دار سندباد ــ آكت سود في عنوان «شرق من حبر»، أي إنه مجموعة نصوص، بعضها منشور وبعضها الآخر لم ينشر من قبل، وتتناول مسائل ووجوهاً مختلفة لا رابط بينها سوى انتسابها إلى إقليم تاريخي وثقافي عريض، هو العالم الإسلامي المعاصر عموماً، وتعبيرات المؤرخ عن كيفية مقاربتها، وعن كيفية انشغاله هو نفسه بها
حسن شامي*
ما الذي يجمع بين خاطرة وجدانية أدبية تستعيد ذكرى حادثة ترقى إلى أيام الطفولة، ومقاربة تحليلية لمجتمعات الإسلام في آسيا الوسطى مثلاً؟ ما الذي يجمع بين مقاربة يغلب عليها التقريظ لأعمال الفنان التشكيلي والحروفي الإيراني حسين زندرودي ومقاربة الأزمة اللبنانية واضطراب المشهد الفلسطيني وتعثر عملية السلام منذ اتفاقيات أوسلو؟ ما الذي يجمع بين سيرة امرأة من أصول أرستقراطية روسية وتتارية، وتناول لحظات من مسار بلد عربي كبير مثل مصر، وهي لحظات تتوزع على عقود من السنين، مشفوعة بلقاءات وزيارات تحضر فيها شخصيات مصرية سياسية وإعلامية وجامعية؟ وما الذي يجمع بين سرد تاريخي لأزمة البلقان وانقسام يوغوسلافيا السابقة، ومحطات بارزة من تاريخ المملكة العربية السعودية والحركة الوهابية وسيرة عائلة بن لادن ذات الأصل الحضرمي (نسبة إلى حضرموت) وصاحبة شركة كبرى ناجحة في البناء والمقاولات في السعودية؟ وما الذي يجمع أيضاً بين التدقيق في مصطلحات جارية ومفاهيم مثل «العصبية» عند ابن خلدون و«الإثنية» (الجنس، العرق) و«الشرق الأوسط» مصطلحاً جيو ـــــ سياسياً أطلقه الإنكليز في القرن التاسع عشر، واستعادة وقائع لقاءات مع زعماء لبنانيين، سياسيين مثل أمين الجميل ووليد جنبلاط، ودينيين مثل البطريرك نصر الله صفير، إضافة إلى لقاءات مع مثقفين وجامعيين لبنانيين وكلمة رثاء في باحث ألمعي وإعلامي قُتل ظلماً مثل سمير قصير؟
قد تكون عناوين المسائل والموضوعات المذكورة كافية للتساؤل عن مسوغات الموازنة بينها، علماً بأنها تقع في مدارات متمايزة ومنفصلة. ذلك أنها كلها محل تناول وسرد وتحليل في كتاب المؤرخ الفرنسي الراحل منذ شهور، وهو متضلّع ومتخصص في التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، وهو معروف أيضاً في الأوساط الجامعية والبحثية في غير بلد عربي، أي دومينيك شيفالييه.
يدعونا شيفالييه في كتابه الجديد «أبخرة دماء... الشرق الأوسط شهيداً» إلى مصاحبته خلال تنقله ليس فحسب بين أمكنة متباعدة جغرافياً بهذا القدر أو ذاك، بل أيضاً بين أزمنة متباعدة تاريخياً ولا تقتصر على العقود الخمسة أو الستة التي تعرّف خلالها عن قرب على غير بلد ومجتمع عربي. وتحدوه في ذلك كله الحاجة إلى الرواية أو الحكاية، وهي كما نعلم أُمّ التاريخ ومنطلقه. وهذه الحاجة إلى الحكاية تعود بالتأكيد إلى تقدمه في السن وتفرغه لاستذكار مساره وتجربته بعدما تقاعد من وظيفته مديراً لمركز التاريخ العربي والإسلامي المعاصر في جامعة السوربون، وبعدما أشرف خلال سنوات طويلة على إعداد باحثين وإدارة أطروحاتهم الجامعية ومناقشتها، وبينهم كوكبة فرنسية وعربية من ألمع الباحثين والأساتذة اليوم.
غير أن صاحب الكتاب المرجعي المرموق عن «مجتمع جبل لبنان في زمن الثورة الصناعية في أوروبا» لا يروي على طريقة كُتّاب السِيَر الذاتية. فهو يظل مسكوناً بحسّ المؤرخ ونزوعه إلى الفهم والتحليل موظفاً خبرته الطويلة في التدقيق والتشخيص والصياغة. وبهذا المعنى، تتقدم نصوص الكتاب على إيقاع المزاوجة بين السرد الحكائي للقاءات ومشاهدات وانطباعات، وتَعَقُّل الأحداث التاريخية ومقاربتها بواسطة الأفكار والمفاهيم المتداولة في حقل عمل المؤرخين وكتاباتهم.
على النحو هذا، يستعيد شيفالييه، مثلاً، ذكرى وصوله إلى القاهرة في صباح يوم قائظ من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1955، بهدف الإقامة وسط كائنات بشرية وروائح وأصوات خانقة جعلته يشعر بالضياع. ويتساءل المؤرخ عما تعلّمه من هذه الإقامة وفيها قبل أن يجيب بعبارات هي أقرب إلى المكاشفة الذاتية منها إلى الخلاصة الجاهزة. فهو يقول: «استأنفت طريقي عبر ما أظهره العرب لي من أشياء مغايرة لذاتي. فقد وجدت نفسي، مثلهم، مأخوذاً بألم اللوعة الحائرة. الفكر الذي يسبق الوسائل والإمكانات، والعذاب الدائم الناجم عن عدم الإنجاز، والعقل الذي يريد أن يكون في وقع القلب، والرجاء المنتفض، وأشكال القلق، كل هذه تصير بحثاً عن الذات وسط الترسيمات المتداعية».
عبارة شيفالييه المتحدثة عن الفكر الذي يسبق وسائل وإمكانات تحققه تستحق، في نظرنا، انتباهاً مضاعفاً. فهي تلقي الضوء، بكثافة شبه شعرية، على وجه يكاد يكون مأسوياً من وجوه موقع النُخَب الوطنية الحديثة ولغتها. ذلك أنها تتحصّل على أفكار وأدوات مقاربة وتحليل بدون أن تمتلك وسائل تجسيدها وتحقيقها في ثقافة وطنية عريضة ومشتركة، بل حتى بدون أن يوفر لها مجتمعها بالذات مثل هذه الوسائل، بالنظر إلى ثقل مؤسساته «التقليدية» ومبادئ تنظيمه الاجتماعي في فترة تاريخية معينة. ويمكننا أن نربط مكاشفة المؤرخ الواردة في أول الكتاب مع ما يقوله عن العولمة في آخر نص في كتابه. فهو يتساءل تساؤل العارف المصدّق والمستنكر في آن، إذا كانت العولمة تقود إلى إنشاء عالم ينبغي أن تتعايش فيه حشود من البروليتاريا الرثة، من جهة، مع أصحاب امتيازات من غُلاة الليبرالية، من جهة أخرى؟ ويلحظ أن السيطرة الاقتصادية للولايات المتحدة واستراتيجيتها السياسية ـــــ العسكرية على المستوى العالمي يمكنهما أن يكونا محل انتقاد ورفض، بل حتى مجابهة. إلا أنه ينبغي الالتفات إلى أن الإمكانات التي توفرها تقنياتهم العالية تثير افتتان الأوساط المتعلمة في المجتمعات العربية وافتتان عدد من التجمعات الهامشية، ولا سيما في مجال المعلوماتية والاتصال. ولا يمنعه هذا من تشخيص المسألة على النحو الآتي: «تحت غطاء نوع من تأحيد (تعميم شكل واحد) التقنيات العلمية والصناعية، تستثير العولمة في الواقع تعارضات هائلة، ثقافية واجتماعية وديموغرافية».
يظهر من تنقلات شيفالييه بين الأمكنة والأزمنة العربية والإسلامية أن شيخوخة المؤرخ لا تتمتع فحسب بخصوصية معينة، بل كذلك ببعض الفضائل. فالشيخوخة التي تلقي بنا في أرذل العمر، تسمح في الأقل بالتخفّف من الحاجة إلى المسايرة والمجاملة وتدوير الزوايا. على النحو هذا، يبثّ شيفالييه، في ثنايا سرده التاريخي لنزاعات الشرق الأوسط، مواقف وتعليقات نقدية تأتي لاذعة أحياناً، وخصوصاً حيال السياسات الأميركية وانحيازها الثابت إلى إسرائيل. وينتقد أولئك الذين يحترفون الوعظ وإعطاء الدروس، في دول الاتحاد الأوروبي، إذ إنهم بدلاً من الدعوة إلى الضغط على الدولة العبرية لتحقيق سلام عادل، راحوا يمارسون الضغط على الفلسطينيين، وخصوصاً بعد الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة حماس. وفي سياق مشابه، يخصص شيفالييه مقطعاً للتعليق على عبارة «عفا عليه الزمن» التي أطلقها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مطلع شهر أيار (مايو) من عام 1989، وذلك في معهد العالم العربي في باريس وأمام عدد من الشخصيات السياسية والأكاديمية والإعلامية، وفي أعقاب زيارة رسمية التقى خلالها في قصر الإليزيه برئيس الجمهورية الفرنسي فرنسوا ميتران. العبارة التي قيلت بالفرنسية بعدما همس بها إبراهيم الصوص، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا، في أذن عرفات تتعلق بأحد بنود ميثاق منظمة التحرير الذي لا يتحدث عن دولتين، بل عن دولة واحدة، علمانية وديموقراطية يتساوى فيها كل المواطنين، اسمها فلسطين. وكان ميتران قد شدد خلال لقائه مع عرفات على أن التمسك بهذا الميثاق يتناقض مع البرنامج السياسي الذي جرى تبنّيه في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 1988 في الجزائر. ما عفا عليه الزمن، أي تقادَم وبطلت صلاحيته، هو هذا الميثاق. والحال أن تعاطف شيفالييه الثابت مع القضية الفلسطينية لا يمنعه من انتقاد هذا الوجه أو ذاك من السلوكات السياسية الفلسطينية والعربية. فهو يشير إلى حديث عرفات آنذاك عن «سلام الشجعان»، معتقداً أنه بذلك سيكون أشبه بالجنرال ديغول في دعوته الجزائريين إلى «سلام شجاع». غير أن عرفات، يعلّق شيفالييه، «ليس هو المستعمِر (بكسر الميم) الذي يفترض فيه أن ينزع استعماره، بل هو المستعمَر (بفتح الميم) الذي يُطلب منه بإلحاح الاعتراف بحقوق مُستعمِره (بكسر الميم)». في العمق، يضيف المؤرخ، ما كان يهم عرفات هو الاعتراف بالسلطة الفلسطينية التي كان قد أصبح هو رمزها وقائدها الحصري في آن واحد. وفي نص آخر، يتحدث شيفالييه عن وفاة عرفات في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004، مشيراً إلى أن وجود عرفات وحضوره بين أبناء شعبه، لكن بدون تحقيق إنجازات ملموسة، زادا من شعور الفلسطينيين بالمهانة والذل. ومن اللافت للنظر أن شيفالييه لا يستبعد أن يكون الزعيم الفلسطيني قد مات مسموماً، مع الإشارة المتسائلة إلى احتمال تورّط أشخاص عرب زاروا عرفات، وإن كانت الاتهامات قد وجّهت إلى الاستخبارات الإسرائيلية.
ثمة بالتأكيد ما نستفيده من قراءة نصوص شيفالييه الموزعة والمتفرقة. وفي مقدم ذلك محاولة تعقّل فرادة الحدث بدون أن يغيب الالتفات إلى وقعه وتأثيره في بنى اجتماعية وذهنية تندرج في الأمد الطويل، أي في الديمومة الاجتماعية والعقلية التي يهزّها الحدث ويعرّضها للامتحان والمساءلة، وخصوصاً عندما يحصل الحدث في أوضاع اقتصادية وسياسية تفرضها ظروف خارجية. ينبغي إذن مقاربة الأمور وتفاعلاتها بأكبر قدر من الانفتاح ومن التمسك بالمنظار الإنسانوي. ذلك أن «أي حضارة لا تحقق مصيرها إلا عبر الالتقاء مع بناءات إنسانية أخرى». هذه المقاربة المركّبة التي انتهجها المؤرخ شيفالييه، نلمسها حتى في نصوصه الحميمية والوجدانية. فهو في مقالة نشرها في مجلة «كومونتير» في شتاء 2005 ـــــ 2006، وأُعيد نشرها في كتابه الأخير، يتحدث عن سمير قصير، صديقاً وشهيداً. مَن هو سمير قصير؟ يسأل شيفالييه مخاطباً وسطين اثنين في آن معاً: فرنسي ولبناني، «إنه لبناني اغتيل. وهو فرنسي لن يكون له الحصول على وسام الشرف ولا الكسوة الخضراء (...) حرية عقله الساخر كانت تبعده عن سراباتنا التكريمية، لكنها كانت تزعج طموحات دموية في الشرق (...) لم يترك له القَتَلة الوقت لكي يهرم ويشيخ. في الثاني من حزيران 2005، كان في الخامسة والأربعين من عمره».
هكذا يمهّد شيفالييه لحديثه الاستعادي عن لقاء جرى في مطعم في بيروت في 15 أيار 2005، مع أصدقاء أشرف قبل سنوات طويلة على أطروحاتهم، وهم من بين ألمع الباحثين والمثقفين في لبنان: أحمد بيضون وسمير قصير ونواف سلام. يروي شيفالييه أن سمير قصير وصل متأخراً بعض الشيء مساء ذلك اليوم، وأنه بدا مهموماً وقلقاً بالرغم من احتفاظه بابتسامته. ثمّة كآبة ما في تصرّفه وقد أخذ الشيب يغزو شعره ولحيته. ومع أنه عادة ذَرِب اللسان، فقد بقي متمسكاً بتحفّظ صامت. وهنا يتساءل شيفالييه: «هل كان في مقدور مثاله المدني الخاص أن يتجاوز التبلّدات الطائفية التي تعيد إنتاج تضامنات العائلات القبلية، لدى الأكثر فقراً ولدى الأكثر وصولية على حد سواء؟». كان يظهر له أن عهداً جديداً قد بدأ إثر اغتيال رفيق الحريري وموجة الانفعال العارمة التي أعقبته، وانسحاب القوات السورية من لبنان. وبحسب شيفالييه، فإن سمير قصير نقل شائعة عن الجهة التي موّلت اغتيال الحريري، وانتشرت هذه الشائعة في بعض الدوائر والحلقات في بيروت. تسويق هذه الشائعة أسهم ربما في تقصير أجله. لقد ظل سمير قصير يثق ثقة هائلة بالمستقبل. إلا أن مشروعه النضالي عرف بدون شك حدوده (الطائفية) يوم 14 آذار. ويذكر شيفالييه أنهما تحادثا هاتفياً عشية اليوم المشهود، وأن سمير قصير كان يفيض أملاً وحماسة بالاستعدادات الجارية للتجمع الحاشد في اليوم التالي، إذ تدفق أكثر من مليون لبناني إلى ساحة الشهداء واحتشدوا فيها. غير أن «شعاراتهم المناهضة للسوريين كانت تحجب لغات (خطابات) عدة. لغة سمير قصير، المبنية على التسامح حيال الشعب السوري ووجوب عدم الخلط بينه وبين حكومته، لم تُفهم كما ينبغي». هل كان ذلك اليوم ناجحاً؟ يسأل شيفالييه قبل أن يجيب بعبارات تستحق الانتباه: «نعم، لكن ليس كما كان سمير يتمنى هذا النجاح؛ فقد حوّل هذا اليوم اتجاه الحركة التي كان يقوم بتنشيطها، وكسر عدداً من أوهامه. وبعد بضعة أيام، دعا حزب الله الشيعي إلى تجمع شعبي مضاد في المكان ذاته، ليس للدفاع عن التحالف مع السلطة السورية بقدر ما كان للدفاع عن الواقع الفاعل لوجوده الجماعي بالذات، أي لوجوده السياسي إذن».
ونحن نرى أن تشخيص المؤرخ الفرنسي لمنطق الاستقطابات اللبنانية، كما يظهر من كلامه هذا، هو أقرب إلى الواقع بكثير من مقاربات شائعة زاعمة للجذرية ومسترسلة في تحكيم الأهواء والأحكام الجاهزة. أما اغتيال مثقف ومؤرخ لامع مثل سمير قصير في غمرة شروعه في مراجعة نقدية لرهانات اللبنانيين واصطفافاتهم، فإنه يزيد من فظاعة هذا الاغتيال. إنه ظلم مضاعَف.
* كاتب لبناني مقيم
في باريس