نسيم الخوري *يقرأ معظم السياسيين والمستوزرين والوزراء والنواب السابقين والحاليين واللاحقين، الاستراتيجيات الوطنية الكبرى منها والصغرى في وجوه أسيادهم الزعماء. قلت يقرأون بخوفٍ ومذلّة؟ وهم لا يفكّون الحرف، ولا ينبسون بحرفٍ، لكنهم يفكّون الأكياس المربوطة في ديار أسيادهم، كما في جيوبهم وحساباتهم المكشوفة منها والسريّة.
فلنبدأ في بغداد وصولاً إلى بيروت التي شقّت الكون بادّعاءات زعمائها الديموقراطية التي لا غبار لها في سماء لبنان!
1ــ عند الساعة 18 من 15 كانون الثاني 1991، نظر صدّام حسين إلى ساعته الذهبية التي تحمل رسمه، ثمّ رفع رأسه مبتسماً، وقال كلمة واحدة: أينهم؟.
يومذاك كان الرئيس العراقي في ساحة العمليات الكويتية متمتعاً بتقاسيم عالية المعنويات، وكان يوم نهاية الإنذار لـ«عاصفة الصحراء» التي أسقطت مئة ألف طن من القنابل فوق رأس صدّام حسين إلى أكثر من 400 صاروخ جوّال بعيد المدى. وكانت صلابة التعنّت في القرار السياسي قد بلغت ذروتها عند فشل طارق عزيز وجيمس بيكر في درء الحرب في 21 كانون الثاني / يناير 1991، مع فشل ملحوظ وشبه معلن للمساعي السوفياتية برمّتها. وكان الكونغرس بأغلبية 6 أصوات قد منح، قبيل نهاية الإنذار، الضوء الأخضر للحرب وبدعم مطلق من الرئيس الأميركي جورج بوش.
وعندما سأل صدّام الجنرال أياد الراوي قائد الحرس الجمهوري آنذاك عن نسبة توقعه للهجوم الذي انتهت مدّة إنذاره، أجاب بخضوع لافت أنّ الهجوم المعادي قد يقع باحتمالية لا تزيد عن الواحد في المئة!
لماذا هذه المعلومات التي لم ترَ الضوء من قبل؟ طبعاً ليس لتكرار الشؤم والمذكرات في غزو بلد شقيق، بل للاطّلاع على أداء القادة والقادة العسكريين الذين يستسلمون للرأي السياسي الفردي الحاكم بشكل مطلق ولا يعيرون أيّ شجاعة لثقافتهم الاستراتيجية في الحكم من ناحية، ولإلقاء بعض الضوء على كيفية صنع القرار في معظم بلادنا عموماً من ناحية ثانية!
فقد تسنّى لي الاطّلاع على دراسة استراتيجية (غير منشورة) للفريق الركن الدكتور رعيد مجيد الحمداني قائد فيلق الحرس الجمهوري العراقي السابق المسمّى بالفتح المبين (عفواً من القرّاء فنحن لا نريد الاسترسال في كتابة اسم الرجل وأوصافه كي لا ينتهي مقالنا بصفّ الأوصاف بعد كتابة الاسم مثل صفّ النياشين فوق الصدور، ولكن ما الحيلة إن كان معظم العرب كذلك) حول المآزق الاستراتيجية العسكرية العراقية في حربي 1991 و2003.
لقد شدّتني هذه الدراسة الحرّة لأنها توصّف بشكل رائع سفينة العراق وهي تغرق في الوقت الذي كان فيه الشعب العراقي مصادراً من زعيمه، يغرق في تبيان ولائه بمختلف الأساليب للزعيم إلى درجة أن ظاهرة التملّق السياسي كانت جوهر الاستراتيجية العليا، وهي انعكاس وتطبيق عملي لنهج الرئيس الموصوف بكيفية تعامله مع القيادات السياسية والعسكرية.
تكمن كلّ العبر في الخضوع التام الذي انسحب مع مرور الوقت والممارسة على سلوك «الكبار» المصادرين ليصبح خضوعهم ونفعهم طبيعةً في التفكير، وأسلوباً في عرض الآراء والأفكار «مع مراقبة دقيقة تفصيلية لملامح وجه الرئيس صدّام حسين وانفعالاته، وخصوصاً عندما يكون الطرح مباشراً أي وجهاً لوجه، أو من خلال الاستقراء الدقيق لما يميل إليه القائد أو ما لا يستسيغه إذا كان الطرح غير مباشر».
كانت ملامح الوجه للزعيم، إذن، منبعاً في صنع القرار السياسي الاستراتيجي وفق آلية محدودة النطاق وبمساحة نقاشية ضيّقة جداً. كانت المخططات ترسم للعراق والمنطقة في دوائر القرار، وكانت مجموعات وزارة الدفاع والمقر العام للحرس الجمهوري وكبار القادة العراقيين غارقين في سجالات وتحليلات دائمة مقيتة حول من يفهم ملامح الرئيس أكثر أو من يفسّر كلماته وأوامره وابتساماته وإشارات يديه وفمه وأنفه بشكل أكثر وضوحاً، ومن هو مقرّب إليه أكثر.
وكان الانشغال بتطور الموقف السياسي في إدارة الأزمات أمراً قد شلّ القيادة وأدى بها إلى وضع خطط غير ناضجة أو غير محسوسة ليندفع المنتفعون والمنتفعات، بعد سقوط الرئيس من حبل المشنقة في البئر، في تجاذبهم وانقسامهم وتناقضاتهم في التفسيرات والمواقف، التي لن يكلّ الحبر العربي من نبش ما أسّس له من كوارث بالنسبة إلى البعض هي عين الديموقراطية في الحكم لدى البعض الآخر.
هل يتصور واحدنا، مثلاً، وهو يقرّ بأن احتلال الكويت لم يكن مشروعاً أو مفهوماً مسبقاً لأي عاقل ووفقاً لأية نظرية احتمال سياسية سوى بالعودة إلى الكلمة المرتجلة لعبد الكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق... «أنّ صدّام حسين عندما نفّذ غزو الكويت بواسطة الحرس الجمهوري العراقي فوجئت القيادة العسكرية العراقية كلها ووزارة الدفاع ورئاسة أركان الجيش بهذا الحدث الكبير وهم ما عرفوا به إلّا من خلال وسائل الإعلام» كما يقول الفريق مجيد!
2ــ ماذا يتغيّر في المشهد اللبناني؟
إنّ تموّج السلاطين في أمزجتهم وملامحهم بين الحملان والذئاب يرشدنا إلى منظومة صنع القرار، وتعيين الوزراء، ليس في لبنان فحسب، بل في دول العالم الثالث الذي ينقشع من ألسنتنا كمصطلح:
هناك فريق عمل صغير يحيط بالزعيم السياسي وهناك مستشارون أو متفرّجون على الرئيس أو الزعيم، وهم غالباً ما يمتهنون حني الرؤوس، ويفضّلون عدم الكلام أو المباشرة فيه، وهم لا يعلّقون على الانتقادات إلا لماماً وبالتقارير الشفوية والمكتوبة، يشرّطون مساحة القرار ويرفعون الجدران حول المسؤول، ويبدأون بالنهش والنهش المضاد!
وعندما تعرض في بعض الأحيان القرارات المهمة على المؤسسات بصورة شكلية مدبّرة، تعمل الدوائر العليا على دراسة تلك الأهداف بهامش مرسوم مسبقاً من المناقشة المتكلّفة والحوار المصطنع، وكلّها تتمحور في الغالب على التسابق في سرعة التنفيذ وبما يحقق أوهام القوة لدى الزعماء حيال الطاعة المطلقة لأزلامهم! نعم، أوهام القوة حتّى في أقصى البلدان تغنياً بالديموقراطية مثل لبنان، كما قلنا! هل هذا صحيح؟
كنت من بين زملاء في «منبر الوحدة الوطنية» ترأسهم الدكتور سليم الحص ودار بهم على معظم الزعماء في لبنان الذين يحيطون أنفسهم بعدّتهم وعديدهم من الوزراء والنواب والمستشارين وصعقنا أمام يباس ألسنة هؤلاء، وضمورهم في حضرات زعمائهم. كانت تحمرّ وجوههم، فهم لا يحسنون سوى هزّ الأعناق بالموافقة والتطييب، مع أنهم قد يتفاصحون خلف الشاشات.
من يرقب «الساحة» اللبنانية السياسية وخصوصاً على مستوى المواقف والتصريحات، ولو بعد تفاهمٍ قطري، ومن يتمعّن بالمتحاورين، يشعر كأننا مصابون بطاعون مزمن يمكن تسميته الوقوع في فخّ أوهام القوة، حيث لا يموت أحد فعلياً في لبنان، ولا يتمكّن أحد من كسر أحد نهائياً. ولا يلغي أحد أحداً. السلطة ثابتة دوّارة في قسمات مجموعة زعماء لا يتعدّى عددهم الأصابع العشر.
يكفي أن ينظر الزعماء إلى قسمات وجوههم قبل تركهم منازلهم ليدركوا كم هم في الحقيقة حواريون ديموقراطيون بطّاشون وليلمسوا حقيقة الطغيان في أضيق دوائرهم، فكيف هم ساهرون على اللبنانيين والمستقبل والرفاه والديموقراطية والعدالة والسلم.
عاش مكيافلي! وعاش ورثته من أمراء لبنان أي الوطن المستحيل أيضاً وأيضاً. عاش لبنان.
* أستاذ جامعي