في القرى والمدن، في الأحياء الفقيرة أو المرفّهة، في المقاهي الشعبية أو نوادي الأغنياء، ما زالت النميمة والثرثرة و«كلام الناس» عاملاً يحدّد سلوكياتنا اليومية. حشرية الجار أو القريب أو الصديق قد تدفع البعض إلى تغيير خياراته، وتحدّ من نزهاته، الفتيات هنّ الضحية الأولى لحشرية الآخرين، والأسوأ أن هذه الحشرية مباحة في العرف الاجتماعي، الضحية هنا هو من
يقدّم «السوط» إلى جلّاده

جانا رحال
تروي رنا قصة بنات الجيران في قريتها الشمالية، فتيات جميلات، متفوّقات في الدراسة، أنيقات ومهذّبات، كان معظم شباب القرية يتمنّون لقاءهن أو الارتباط بإحداهن، تتمتع كل واحدة منهن بـ«سمعة مثل الذهب»، لكنهن كن قليلات الاختلاط بالآخرين، شبه منعزلات في المنزل، بعدما تطوّرت صداقتها بهن، تنبّهت إلى أنهن شبه ممنوعات من الخروج، الرياضة الصباحية والمشي في الشوارع القريبة من المنزل ممارسة مُنعن منها «حتى كلام الناس ما يوجّعلنا راسنا» قال الأب ذات مساء، فخضعت البنات للأمر.
تبادلت الفتيات الزيارات مع خالتهنّ فقط، الاختلاط بالأقارب الآخرين غير محبّب بالنسبة إلى الأب المشغول بالسمعة الذهبية للبنات، وبما يمكن أن يقوله الآخرون. تذكر رنا أنها يوم دُعيت إلى غداء عند الجيران، جلست مع أفراد العائلة على المصطبة، وقد مرّ شاب من أقارب تلك العائلة قرب المنزل، اقترب من البلكون للحظات وتبادل الحديث مع الأم، بعد أسبوع مُنعت بنات العائلة من التكلّم معه، إذ سرت شائعة بأنه تقدّم لخطبة إحداهن، والأمر غير صحيح.
تذكر رنا أيضاً أنها كفكفت دموع صديقاتها بعدما نلن جزاءً قاسياً لأنهنّ استقبلن صديق والدهن، جرى الترحيب بالرجل أمام الباب، وجلس مع الفتيات خارج المنزل كي لا تُثار الشكوك إذا دخل في غياب الأهل، وإذا بأحد الجيران يكلّم الوالد عند عودته ليلفته إلى أن هذا التصرف قد يضر بسمعة العائلة.
مرت سنوات طويلة قبل أن تلتقي رنا مجدداً صديقاتها اللواتي لم يُجدن اختيار اختصاص جامعي، تزوجن أقاربهن، ولا يعشن حياة سعيدة.
قصة هؤلاء الفتيات تشبه قصصاً كثيراً لفتيات وصبيان يُمنعون من القيام بممارسات يومية عادية، إذ يتخوّف الأهل مما قد يقوله عنهم الآخرون، ولا أحد يطرح السؤال التالي: لماذا يتلصّص الجيران؟ لماذا يتابعون تصرّفاتنا؟ ولماذا يكرّسون وقتاً للتداول في أمورنا؟
ترى المعالجة النفسية نادين لحود أن الإنسان بطبعه يميل إلى الحشرية والتدخّل في شؤون غيره، لكن التربية هي التي تُطوّر هذه الحشرية إلى عادة طبيعية ومزعجة، كما أن التربية الصحيحة تحدّ من الحشرية وتحدّد أيضاً الشكل الذي تتّخذه علاقتنا بالآخرين، فلا يسمح المرء بالتدخّل في شؤون غيره. وتشدّد لحود على «أن الأهل يجب أن ينتبهوا إلى الأحاديث التي يسمعها الأبناء، لأن الولد يتعوّد سماع أحاديث الغير ومعرفة ما يحصل معهم، وبالتالي يتطوّر لديه الميل للتدخّل في أمور تخص الآخرين». تشدد لحود على أنه يجدر بالأهل أن يعلّموا الطفل احترام خصوصيات الآخر واستقلاليته،
وتلفت أيضاً إلى أن الحشرية ليست حكراً على النساء، فهناك رجال يتفوّقون على النساء في تدخلهم وكلامهم على الآخرين. « لكن عموماً لا نرى الكثير منهم، وعادةً يكون كلامهم وتدخّلهم مرتبطاً بالأمور المادية والاقتصادية». كما أن الحشرية والكلام عن الآخرين عادة منتشرة لدى الأفراد المنتمين إلى مختلف الطبقات الاجتماعية، كما يمكن أن يكونا من عادات العاملين والعاطلين من العمل.
يشرح أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي أن الإنسان بطبيعته يرغب دائماً في معرفة المجهول، وخصوصاً ما يتعلق بالآخرين. ويضيف «ربما يحاول المرء من خلال ذلك أن يقارن بين ما يفعله هو وما يفعله الآخرون». ويشدد عتريسي على أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان قد تساعده على تحقيق دوافعه في هذه المسألة، أو تمنعه من ذلك، وهذا يتوقف على حجم المكان الذي يعيش فيه الإنسان، فكلّما كان هذا المكان أصغر (القرية، البلدة، الحي...)، أصبح إمكان التدخل في شؤون الغير أكبر.
يرى عتريسي أن الجانب الثفافي العام للمجتمع يشجع على الاهتمام بالآخرين، وذلك من خلال دوافع إيجابية، كما هي حال المجتمعات الشرقية، ولكن هذا الاهتمام قد يتّخذ منحىً أو مظاهر سلبية تبرز في التدخل بطريقة مزعجة في شؤون الغير، وزيادة الكلام والنميمة، وهنا يلحظ عتريسي أيضاً أنّه «في المجتمعات الغربية تراجعت كثيراً العلاقات الاجتماعية والاهتمام بشؤون الآخرين، وبرزت قيم جديدة تركّز على الشأن الفردي ممّا أضعف الميل إلى الحشرية والتدخل». لكن عتريسي يرى أن ذلك لم يمنع بقاء هذه الظاهرة في الأرياف.
يلفت عتريسي إلى أن الناس يتأثرون بما يقال عنهم لأن الإنسان يحب أن يُقدّم أجمل صورة عن نفسه، ويحاول إخفاء سلبياته دائماً لذلك يرفض أي خلل في هذا، فيستمع إلى ما يقوله الناس ويسمح لهم بالتدخل في شؤون «لا يحب أن تشوّه صورته، وهذا كله يتجسّد في ما يسمى الكلام عن الآخرين والتدخّل في شؤونهم، والإساءة المعنوية إليهم».


ثمن الاستقلالية

مأمون سنجر (25 سنة) وقع في حب امرأة مطلّقة واختار الزواج بها، أبدى أفراد عائلته بعض التحفظات لكنهم تقبّلوا الأمر بدايةً، وخاصة بعدما تعرّفوا إلى العروس وأحبّوها. لكن مأمون يقول «تغيّر كل شيء عندما علم الجيران والأقارب بأن عروسي امرأة مطلّقة، إذ بدأوا يطلقون الشائعات ويحثّون أهلي على منعي من الارتباط بحبيبتي، وراحوا يتدخّلون في شؤون لا تعنيهم، وأقنعوا والدي». يكمل محمود أن والده كانت له مكانته الاجتماعية، وكل أهالي حيّه في العاصمة يعرفونه.
رفض الأب عروسة ولده، لكنّ مأمون أدار ظهره لكلام الناس «قررت حينها أن نتزوج دون موافقة أهلي وبعيداً عنهم، يمكنني بناء حياتي بطريقة جيدة دون الحاجة إلى عائلتي»، تزوج مأمون حبيبته، ما أدى إلى قطيعة مع والده ووالدته اللذين رفضا التعرّف إلى حفيدَيهما