فاديا حطيطجاءتني تعليقات عديدة من أصدقائي على ما كتبت عن المدرسة الرسمية في هذه «النظرة». كلها توافق على أهمية الموضوع المطروح، وتنظر إليه من زوايا مختلفة، أحدها يقول إن سلبية صورة المدرسة هي نسخة عن تصوراتنا السلبية عن المؤسسات الرسمية كلها، ويدعو إلى مواجهة ذلك من خلال وسائل الإعلام. وتعليق ثان شبيه يقول إن ضعف التعليم الرسمي هو من ضعف القطاع العام الذي هو من ضعف الدولة عامة. تعليق آخر يرى أن المسألة معقدة وأهل المدرسة أنفسهم يحملون جزءاً من المسؤولية، فبعضهم يخجل من ذكر أنه من مرتاديها، ويرى الأمر في إطار ثقافة استهلاكية تمظهرية عامة لدى اللبنانيين، ثم إن المدارس ذات الطابع الديني التي تنمو مثل الفطر وتقدم لتلامذتها امتيازات ومكاسب، لا يمكن للدولة تقديم ما يماثلها. تعليق آخر يرى أن مشكلة التعليم الرسمي هي مشكلة قديمة ومهملة، ويرى أن ثمة ضرورة ملحة لنقاش وطني وجدي ومعمق بشأن أسس بناء الوطن، وقاعدته بناء النظام التربوي فيه.
أنا كنت أنوي أن أحتفظ بهذه التعليقات لنفسي، وأن لا أثير موضوع المدرسة الرسمية مرة أخرى، فهو موضوع متشعب ويحتاج إلى صيغ حوارية وفكرية رسمية وشعبية متعددة. ولكن كلما مررت أمام الملصقات الإعلانية الخضراء الكبيرة المكتوب عليها 44 مليون شكراً، أشعر أن الموضوع يلاحقني، وأن شيئاً ما يعصر معدتي. وأتذكر.
إنها مدرسة رسمية. غرفة إدارة متواضعة ومعلمات أو ناظرات ومستخدمة يرحن ويجئن ولكن الجميع في غاية اللطف. أهلاً تفضلي. معك إذن من وزارة التربية؟ إذاً أهلاً بك. هذا صف للروضة فانظري فيه ما شئت. دخلت إلى صف صغير، بالكاد يتسع لأربع طاولات مستديرة وخزانتين حديديتين وحبال معلقة تصل ما بين الجدران المتقابلة وعليها بعض أشكال الزينة. الأطفال لا يستطيعون أن يتحركوا. المكان ضيق. سألت المعلمة المتدربة وأنا أجول ببصري على الجدران: أين تعلقون الرسوم والملصقات؟ قالت لا نستطيع، لأن هناك مدرسة أخرى بعد الظهر وأطفالاً آخرين يستخدمون الصف نفسه. نظرت حولي أين الألعاب وقصص الأطفال؟ وجدت بعض المقصات وبعض الكراتين والأقلام الملونة الصغيرة مرمية على رف من رفوف الخزانة. ماذا يفعل الأولاد الآن؟ إنهم يملأون بطاقة عن الشكل كذا، وقبل ذلك؟ كانوا يملأون بطاقة عن الحرف كذا، وبعد قليل؟ سيملأون بطاقة عن العدد كذا. يمسك أطفال الخامسة من العمر الأوراق صاغرين، يضعونها أمامهم ويأخذون بالخرطشة عليها. وبين الفينة والأخرى ولد يلكز رفيقه، وطفلة تطلب الخروج إلى الحمام، وتعليق من هنا أو هناك، تعمل المعلمة جهدها لإسكاته وإلا دبت الفوضى. متى يخرجون للملعب؟ سألت المعلمة. فقالت إنها تفضل ألا يخرجوا فالملعب من الباطون وهو صغير وغير مسقوف والدنيا تمطر والكبار قد يؤذونهم، لذا نستبقيهم في الصف.
لنتصور وضع هؤلاء الصغار، كل يوم من الثامنة وحتى الواحدة، جالسين على مقاعد لا يستطيعون الحركة وعليهم السكوت والاستماع وتنفيذ ما يطلب منهم. هؤلاء كان أهلهم قد سجلوهم في المدرسة ودفعوا رسوم التسجيل ودفعوا ما كان متوجباً عليهم، ولم يحتاجوا لأحد. أما اليوم وقد جاءت المكرمة، ودفعنا عنهم رسوم التسجيل واشترينا الكتب، فمن يستطيع أن يقول لي كيف يستفيد هؤلاء الصغار؟ وكيف تستفيد المدرسة الرسمية؟