تُعدّ الصبحيات في المدن وضواحيها تقليداً اجتماعياً شبه يومي، رغم أن هذه العادة تعدّ «ريفية». تجتمع النسوة والصبايا ويغرقن في أحاديث متنوعة، ثم تلتف المجتمعات حول قارئة الفنجان... أما الثّريات فلصبحياتهن طابع مختلف: لقاء في المطعم أو الحديقة مع مغنٍ ونراجيل، ومصورين جاهزين لالتقاط «اللحظات النسائية»... لماذا لا تزال الصبحيات قائمة؟ وما هي وظيفتها في حياتنا الاجتماعية؟

هيثم خزعل
في منزل نوال تنطلق الصبحية المعتادة. تتهامس بعض النسوة عن أخبار الحي وأبنائه، يتحدثن عن مشكلاتهن الشخصية. لا تخلو الجلسة من نميمة على بعض الغائبات من نساء الحي. العازبات لهن اهتمامات أخرى، يدور حديثهن حول آخر صرعات الموضة، وما ابتاعته كل واحدة منهن أو ما تنوي شراءه من ثياب وحليّ. لا حديث عن الجامعات ولا عن العمل، الصبحيات بالنسبة إلى المتزوجات والعازبات «وقت مستقطع» من الاهتمامات المنزلية أو العمل، وللهرب من الروتين والتلذذ بالحديث عن أخبار الناس والأحلام والهواجس.
وعلى مبدأ «ختامها مسك»، فإن المرحلة الأخيرة من كل صبحية تخصص للتبصير، ويصبح «تفل» القهوة ناطقاً باسم القدر، وراسماً لخيوط المستقبل القريب والبعيد الممتدة على خارطة الفنجان العربي البيضاء.
لقارئة الفنجان قاموسها الخاص: «الكلب الوفي»، و«جَمعة الخير» ، والـ«سمكة».... أخبار رسمت السرور على وجه أم ناجي. أما «العقربة» الظاهرة في كعب الفنجان فقد أقلقتها. تتنهي قراءة الخطوط والرسوم فتبصم أم ناجي بإبهامها في كعب الفنجان، وذلك بالطبع بعد أن تتمنى أمنية لكن بصمتها «ملبكة» كما رأت الحاجة.
« ورقتين بيض» وهما كناية عن خبرين ستسمعهما أم غسان، «خبر طيارة» أي سفر أحد الأحبة، أما «الدعسة» فهي تشير إلى بيت جديد قد تنتقل إليه صاحبة الفنجان مع عائلتها. وفي فنجان نوال انتصبت «عواميد الفرج» فعززت من ثقة المرأة بمستقبلها، لكن «الفأرة» التي تجوب أرض الفنجان صدمتها لأنها تشير إلى الخيانة الزوجية، ولم تفلح «سبعة النصر» في تهدئة قلقها. تشكر النسوة قارئة الفنجان وينهين الصبحية مرغمات تحت وقع استحقاقات الطبخ والتنظيف، ويحددن زمان الصبحية المقبلة ومكانها.
تمثّل الصبحية جزءاً شبه يومي من حياة النسوة في الكثير من الأحياء في بيروت وضواحيها.
من البيوت إلى المطاعم والمقاهي، تنقل نساء الطبقات الثرية عاداتهن «الصباحية» إلى حيّز يزيد من الـprestige، فتكتظ صور المجلات بأخبار صبحيات المطاعم، أو حدائق منازل فخمة وشرفاتها.
تشارك رنا في هذا النوع من الصبحيات باستمرار، تصحو باكراً لتتوجه إلى صالون الحلاقة، تتأنق ثم تنطلق إلى موعدها في العاشرة في سيارتها الفخمة التي يقودها سائقها. ترى المرأة هذا التقليد جزءاً من حياتها، فهذه مناسبة تجتمع فيها «سيدات المجتمع المخملي».
تزيّن الطاولات، ويوضع عليها ما لذّ وطاب من المأكولات. وتتمحور أحاديث المجتمِعات حول أخبار الموضة والحفلات والسهرات ومشاريع نهاية الأسبوع. تنتهي الصبحية إما بلعب الورق، وإما بوصلة فنية تقدمها فرقة أو راقصة أو مطرب مغمور، والبصارة موجودة دائماً، فقد تحتاج إحداهن إلى خدماتها.
ترى الباحثة في علم الاجتماع الدكتورة فهمية شرف الدين أن الصبحيات نشأت في القرى كعرف اجتماعي يعزز الصلة بين الأقرباء والجيران، وكانت بالنسبة إلى النساء نوعاً من التقليد الموازي لخروج الرجال الليلي، لأن المرأة الريفية كانت ممنوعة من الخروج ليلاً، لذا آثرت النسوة الالتفاف على هذا المنع بالاجتماع صباحاً.
وتضيف شرف الدين أن الصبحيات كانت معممة في كل القرى اللبنانية، رغم الاختلاف الطائفي، لأن أهل القرى في بلادنا ينتمون إلى النسيج الثقافي ذاته. وقد تراجعت هذه الظاهرة لأن نسبة العاملات من النساء الريفيات ارتفعت مع دخول الاقتصاد الخدماتي إلى القرى.
أما في المدن فتعزو شرف الدين نشأة الصبحيات إلى الحرب الأهلية التي منعت الناس من التنقل خوفاً من الموت، فكرّست مفهوماً أو وظيفة جديدة للمباني التي أصبحت جزراً منفصلة ونواة لبناء علاقات اجتماعية، وبذلك اختصر الناس علاقات الصداقة على الجيران ولم تعد الصداقة اختياراً.
وتضيف شرف الدين أن الصبحيات في المناطق التي انتقلت إليها مجموعات ريفية ذات لون طائفي واحد، تُعدّ نقلاً للعادات الريفية من القرى إلى المدن. أما الصبحيات التي تقام في المطاعم فقد برزت بعد الحرب الأهلية عند طبقة من الأغنياء الجدد، وهم مجموعة من الناس فرّقتهم الحرب لكن علاقتهم لم تنقطع.


قيود جيل مأزوم

تعيد شرف الدين تعلق المرأة بالتبصير إلى غياب قدرتها على أخذ القرار، فالقرار إما للرجل وإما للقدر (أي ما تتوقع أن يبوح به الفنجان). أما بالنسبة للفتيات اللواتي تجتذبهن الصبحيات فهن جزء من جيل مأزوم يعاني من تكسّر الطموحات، ويفتقد إلى الرؤية الواضحة لتحديد مساراته وخياراته، كما تغطي الصبحيات جزءاً من حياة الفتاة التي تعاني من القيود الاجتماعية التي تحد من انطلاقتها. وترى شرف الدين أن هذه الظاهرة الاجتماعية سلبية جداً، فهي هدر للوقت وتكريس لصورة المرأة العربية الكسولة التي ترى أن تحقيق الذات لا يكون عبر العمل بل عبر الانتساب والافتخار بالابن أو الزوج