"شعرت أني لست بخير مع اكتئاب ما بعد الولادة، لا أحد يتحدث عنه. لا رغبة عندي في مغادرة السرير صباحاً، لا أحد يتفهمك، وتشعر بهمود ومزاج هابط في داخلك..."، من حديث للراحلة الليدي ديانا أميرة ويلز ل بي بي سي عام ١٩٩٥. مثلها أيضاً كانت الجميلة بروك شيلدز، نجمة فيلم "حب لا ينتهي" تخبر مجلة طبية عن وضعها الكارثي جراء اكتئاب بعد الولادة.
"في الحقيقة لم أرد العيش بعد الولادة، كنت أريد القفز من حياتي الى الموت. تتغير حقائق الحياة الى تخيلات رهيبة...". سيدتان تجرأتا على أن يُفصحا عن أكثر الحالات المرضية المرعبة والمخفية في حياة الأمهات وعائلاتهنّ. كذلك نجمات مثل غوينث بالترو ودرو باريمور، إيڤانكا ترامب، وآديل وغيرهنّ، أردنّ التحدث علانية عن اكتئاب بعد الولادة الذي مازال طَي الكتمان، مغلفاً بالتنميط الاجتماعي والعيب وعدم تفهم الأهل والمجتمع وعدم الحديث عنه كمضاعفات للحمل وما بعد الولادة.
قبل أولئك النساء الجريئات بحوالى ٢٤٠٠ عام، لاحظ أبقراط - أبو الأطباء- أن النساء اللواتي يُصبنّ بالحزن، والقلق، والأفكار الاإنتحارية، كان يقال لهنّ إن كل ذلك "في رؤوسهن"، وكنّ يلمنّ أنفسهنّ لأنهنّ ليسوا أمهات بما يكفي. واليوم في عام 2017 ما زال يُقال للأمهات الجدد، اللواتي يشعرن برهبة المسؤولية ويعانين جراءها هموداً وإحباطاً، "بسيطة وبتصير" أو "بلا دلع وكوني قد حالك" دون تفكير المحيطين بها والمحيطات أنها قد تعاني من اكتئاب بعد الولادة.
يصيب اكتئاب بعد الولادة أمّاً من كل سبع أمهات جدد وذلك خلال الأشهر الستة الأولى بعد الولادة. أما في لبنان فيبلغ معدل انتشاره حوالى ٢١٪‏ بحسب دراسة أجريت في كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت.
يأخذ الاكتئاب الأمهات الى مروحة واسعة من العوارض التي قد تبدو عادية (ولا تثير الشبهات كالشعور المفرط بالمسؤولية أو الهمود الخفيف أو البكاء) إلى عوارض غير اعتيادية كتقلبات المزاج والقلق واضطرابات النوم والأكل والتركيز، وتسمى "بيبي بلوز". ثم يأتيك ما هو مقلق وخطير كعدم القدرة على التواصل مع المولود، الانعزال عن الأهل والأصحاب، تردي الغذاء والنوم والوضع النفسي والعقلي لدرجة كره المولود والتفكير بإيذائه أو بالانتحار. أما في العواقب الأسرية فيؤدي إلى الطلاق وتفكك الأسرة.
تتعدد الأسباب خلف اكتئاب بعد الولادة لكنها لا تجتمع على سبب قوي يمكّن مقدمي الرعاية من تقصي إمكانية حدوث الاكتئاب والعمل على منعه. أظهرت بعض الدراسات احتمال وجود رابط بين التقلبات الهرمونية المصاحبة للحمل وما بعد الولادة وبين الاكتئاب. كذلك أشارت الدراسات الى أسباب أخرى كالتعصيب والسترس وقلة نوم ووجود تاريخ من الاضطرابات النفسية عند المرأة. الدراسة من لبنان أشارت الى أسباب إضافية مثل غياب الدعم الاجتماعي، طريقة الولادة (طبيعية أو قيصرية)، الأحوال الاقتصادية والتعليمية، ووجود اعتلال أو مرض مزمن عند المرأة قبل الحمل.
تهرع الحوامل (ومع أزواجهن أحياناً) للعيادات لإجراء التصوير الصوتي للجنين بشكل متكرر ويستجيب لها مقدمو الرعاية بآلات متلفزة ملونة وعصرية، وهذا مطلوب طالما رغبت المرأة بذلك وارتاحت له. ينطبق الأمر على إجراءات وتدخلات أخرى ترفع مستوى التقصي عن مشاكل الجنين في معظمها، وليس غالباً عند الحامل التي لا تُسأل عن مخاطر إصابتها بالاكتئاب والذي يسبب مضاعفات لها وللمولود أكثر بكثير من مسائل أخرى تُسأل عنها دون أهمية طبية.
هنا أيضاً يتربص العيب والتنميط والتعمية بموضوع الاكتئاب ، فلا يمر في المقابلات في العيادة لغياب تظهيره مجتمعياً ولعدم تسليط الضوء عليه في المؤتمرات وورش التدريب بحجة أنه "ما حدا بيجيب سيرتو" و"منو هالقصة الخطيرة" أو "ما شغلتي شو انا حكيم نفساني"، كلها حجج لا قيمة علمية لها قد تودي بهيكل الأسرة وتؤثر على تربية وحتى سلامة الأطفال.
إن مدى انتشار اكتئاب بعد الولادة يجعل منه أولوية ضمن لائحة المخاطر الطبية المحيطة بالحمل والتي تستدعي من مقدمي الرعاية تقصي هذه الحالة الخطيرة وتتمنى على الحامل أو الولود (ومن حولها) أن تُعطي أي إشارات أو عوارض غير اعتيادية عن الحالة النفسية أهمية قصوى والتشاور مع مقدم الرعاية بشأنها. وما برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة العامة إلا تأكيد على أهمية الموضوع المتصاعدة ضمن مفهوم الصحة العامة.
لا يوجد أصعب من وضع يُجاهد فيه جسد الأم للبقاء والقيام بما يملي عليه المجتمع والأسرة باسم الأمومة، بينما نفسيتها ودماغها المكتئب ينشد نهاية الحياة والموت. هنا الجهود الطبية تنفع وكذلك الحديث العلني خصوصاً أن اكتئاب بعد الولادة يضرب الآباء كما سنرى لاحقاً.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحة جنسية