يصيب العطب القلب، بسبب الوراثة، في المجتمع اللبناني بما نسبته 3 إلى 7%. ولعلّ أهم أسباب ارتفاع تلك المعدلات هو الزواج بين الأقارب، والتي تبلغ نسبتها في لبنان 30%، مع ارتفاع بمعدّل الضعف كلما ابتعدنا عن المدينة. ففي بعض المناطق الريفية، ترتفع هذه النسبة لتصل إلى حدود 60%. ولا يختلف الحال كثيراً في المجتمعات العربية عما هو في لبنان، فالمعدلات الى ارتفاع مستمر، وذلك بسبب التقاعس الاجتماعي في تأمين التوعية والتأمينات الطبية لمعالجة هذه الحالة.
ويأتي في مقدمة الأمراض التي تتسبب بها الوراثة، أمراض اعتلال عضلات القلب الذي يشكّل عبئاً على المريض وعائلته. وتنتج هذه، عادة، عن إعادة برمجة جينيّة خاطئة لوظيفة القلب الميكانيكية أو الكهربائية، مسبّبةً تضخماً أو تمدداً. ويصيب مرض عضلة القلب الضخامي (Hypertrophic Cardiomyopathy) واحداً من بين 500 ولادة. نسبة قد تتعداها مجتمعاتنا، أما السبب؟ فطفرة جينيّة في إحدى جزيئات آلية التقلّص في خلايا القلب. وغالباً، ما يكون هولاء المرضى على استعداد أكبر لتسارع القلب واحتمال توقفه والجلطات الدماغية. من هنا، تكمن أهمية التشخيص المبكر من خلال اتّباع نمط حياتي أمثل عبر الحفاظ على الوزن والنشاط الجسدي المدروس، مترافقاً مع المتابعة الطبية الدقيقة.
لا تتوقف لائحة الأمراض الوراثية هنا، فهناك أيضاً الأمراض "الخاصة" بالمجتمع اللبناني، كمرض خلل التنسّج البطيني الأيمن (Arrhythmogenic Right Ventricular Dysplaisa ARVD). وفي هذا الإطار، تتحدث الدراسات العلمية عن إصابة طفل من كل 5000 ولادة. وهو رقم عام، وإن كنا في لبنان نتوقع انتشاره بمعدلات أكثر، استناداً لعدد من الحالات المشخّصة سنوياً. ولهذا، يبقى الأمر في إطار التوقعات، في ظل غياب الإحصاءات. أما عن تفاصيل هذا المرض، فهو ينجم عن عيب جيني في جسيمات الوصل بين خلايا القلب، متسببة باستبدال هذه الخلايا بأخرى دهنية أو متليّفة. وينتج عن ذلك تمدد في عضلات القلب وقصور في عمله، على غرار مرض الضخامي.
وتتزايد اليوم الاستشارات الطبية المتعلقة بأمراض اضطراب الإيقاع، وخصوصاً تلك المتوارثة. وتشمل هذه أساساً متلازمة كيو تي الطويلة (LQT syndrome) ومتلازمة بروغادا (Brugada Syndrome). ويرتبط كلاهما مع الطفرات في القنوات الجزيئية اللازمة لنقل الصوديوم داخل الخلايا العضلية (Sodium Channels). فالجسيمات غير الوظيفية تزيد من خطر الموت القلبي المفاجئ. ولهذا، فإن تحديد هذه الطفرات في الأفراد يسمح بمتابعة دقيقة وعلاج سبّاق، عندما تتضح الحاجة الطبية. ويُعتبر هذا بمثابة اختراق في علاج المرضى المعرضين قبل أن يظهر المرض حتى.
أما مرض الشريان التاجي، فهو من الأمراض المعقدة، إذ أنّه يتأثر بعوامل متعددة، مثل البيئة (التدخين) والسلوك (الأكل وممارسة الرياضة) وعوامل الخطر (ارتفاع السكر ومستويات الدهون في الدم)، فضلاً عن العامل الوراثي.

يقتصر عدد الاختصاصيين في الغلم الجيني والمسجلين في نقابة الأطباء على 5 اشخاص

وعلى هذا النحو، فإن الجينات هي عامل واحد فقط في هذا المرض وتكمن عادةً الطفرات المسببة في آلية الجسم في تنظيم وتخزين دهون الدم. والبرهان على ذلك، هو أن أقل من 10% من خطر الذبحة القلبية الأولى متعلق بأسباب وراثية. والعبء الطبي لهذا المرض يكمن في السلوك الشخصي والعوامل المترافقة. ويمكن أن تتغير حالة المرض بشكل كبير عندما تغيب هذه العوامل. وبعبارة أخرى، فليس غريباً مثلاً أن تجد هذا المرض لدى الأقارب المدخنين، في حين أنه ينعدم لدى الأقارب الذين يتبعون سلوكًا حياتياً سليماً.

ضعف القلب... والتوعية

تنعدم في أغلب الأحوال التوعية الاجتماعية وبرامجها، خصوصاً تلك التي تتعلق بالتوعية قبل الزواج وقبل الحمل وخلاله. فالفحوصات الجينية المبكرة المعتمدة حالياً قبل الولادة تتقصّد الحالات المرضية الأكثر شيوعاً والمتعارف عليها في المجتمعات الغربية. ولكن ذلك لا يعني تناسي أهمية بعض الفحوص الجينية للأمراض الوراثية الشائعة في بلادنا والمنسيّة تماماً في هذه المعادلة. كما أن انتشار المرض الجيني في تكوين العائلة يلزم التوعية الشاملة لكل أفراد العائلة للتنبيه على "الصحّة السلالية". وقد يكون أهم النقص في المناطق الريفية منسوباً لارتفاع معدلات زواج القربى وكبر العائلات.
مثلاً، يمكن للزوجين التقليل من احتمال توريث الطفرة للجينية لأطفالهم من خلال التوعية الطبية الزوجية. ويمكن للأطفال الحاملين للطفرة التشخيص المبكر قبل ظهور عوارض المرض. ويمكن أيضاً للمريض وأقاربه المطلعين على مرضهم المشخّص جينياً المتابعة الطبية عند أخصائي لهذا لمرض. ويمكن في بعض الحالات استخدام العلاجات الخاصة بالطفرة الجينية والتي ما كانت لتمنح لولا التوعية. وقد يكون هذا الفحص الجيني هو أحد الحلول الاجتماعية التي يحتاج لها مجتمعنا للتخفيض من العبء الصحي لهذه الأمراض. 

المتابعة والتغطية الطبية

يعدّ الفحص الجيني أداة بيد الطبيب للتشخيص، إذ أنه يلغي الشكوك لدى المريض ويمنحه تفسيراً علمياً مقنعاً للتوجّه للمعالجة والاهتمام بحالته. وقد برهنت الدراسات أن انعدام الشكوك بالتشخيص تدفع المريض لاستيعاب مرضه والتقليل من تأثيره على عائلته من خلال الانغماس في التوعية الأسرية. هكذا، يصبح المريض مصدر التوعية الأسرية للحالة الوراثية. وحسب خبرتنا، إن وجود التشخيص الجيني يدفع المرضى للقيام بذلك الفحص لأولادهم وعائلاتهم القريبة والبعيدة.
تبقى التغطية المادية للمرضى المصابين بأمراض جينية في لبنان غير مدروسة. فمن جهة، إن زواج الأقارب في المناطق النائية مستمر تماشياً مع انعدام التغطية الطبية للتشخيص، أو على الأقل، المتابعة المتخصصة للمريض والعائلة. أما في المناطق المركزية فإن التغطية الطبية لا تتأمن من خلال شركات التأمين في الكثير من الحالات بسبب عذر الوراثة. وبالحالتين ينعدم الاستعداد للدراسة الشاملة للطفرة السلالية.
هنا، يأتي دور الدولة المعهود بمركزية التشخيص وتوزيع الأدوار على الاختصاصيين. فقوانين الدولة اليوم تحمي المريض من التحيّز الطبي في التشخيص وبعده. كما أن دور الدولة يكمن أيضاً في توفير الحاجة لأخصائيين في العلم الجيني وللأفراد المتخصصين بتقديم الاستشارة الطبية الوراثية. فمثلاً، يقتصر اليوم عدد هؤلاء المتخصصين في لبنان المسجلين في نقابة الأطباء على خمسة أشخاص فقط. مع ذلك، لا يلغي دور الدولة دور الجمعيات المحلية التي تُعنى بأمراض القلب من خلال إعداد لوائح بأسماء المرضى استناداً لمساعدة المستشفيات ووزارة الصحة.
فمستقبل التشخيص الجيني والمعالجة والاستشارة الجينية في لبنان متعلق بمركزية التوعية للمرضى حيث تنتشر التوعية في كافة المناطق في لبنان. كما أنها تعتمد على مركزية التشخيص من خلال الخبرات اللبنانية المدعومة والمعلّمة من الدولة للاعتماد على جيل جديد من الأطباء المتمكنين من تقديم الطب الجيني. فالهدف الأول للتوعية الجينية ومعالجتها هي المحافظة على مجتمعٍ صحي والتقليل من العبء المادي القادم.

* طبيب قلب متدرب في الجامعة الأميركية في بيروت
** طبيب قلب في الجامعة الأميركية في بيروت




* للمشاركة في صفحة «صحة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]