يقف بعض العالم حائراً أمام بعضه الآخر اليائس، يتطلع الى أحوال شعوبه المتردية وتخلفه المستديم ويحاول اجتراح معجزات هي أقرب الى لائحة الطلبات من الفانوس السحري. بقي العالم ومنظماته الإنسانية يحاول خبط عشواء- لفترة تقارب نصف قرن- أن يقدم وصفات استراتيجية وسياسية واقتصادية وصحية لتحسين مؤشرات دول العالم النامي والموارد المحدودة، ليكتشف بعدها أن ما يَرِد في النظريات قد لا ينفع ما ضاع في قمع الحريات، وازداد الفقراء فقراً والمرضى اعتلالاً والشباب بطالةً.
اجتمع الخبراء والأكاديميون والناشطون تحت مظلة المنظمات الدولية وقرروا أن الشراكة المميزة بين مختلف الهيئات أساس لوضع الجميع امام مسؤولياتهم تجاه أهداف محددة تدفع بالتنمية وبتحسين نوعية حياة الناس في كل بلدان العالم. عام ٢٠٠٠، وُلدت من رحم هذا التصور "أهداف الألفية للتنمية"، ثمانية أهداف نحو التحقق الجزئي أو الكامل ضمن مهلة ١٥ عاماً.
نجح العالم في بعض توقعاته المتعلقة بأحوال سكان المناطق العشوائية الفقيرة، المساواة الجندرية في التعليم الأساسي، وفِي خفض انتشار الملاريا (هذا قبل المأساة في اليمن)، لكنه سقط في تقليص وفيات الأمهات وحديثي الولادة والأطفال (لبنان فاق التوقعات وكان من بين ١٨ دولة قلصت تلك الوفيات بنسبة كبيرة)، وفِي التعليم. بالرغم من الفشل في بلوغ الأهداف لأسباب تتعلق بخصائص كل دولة، إلا أن التقدم بوتائر مختلفة كان سمة الجميع. لم يعد العالم عام ٢٠١٥ كما كان قبل ٢٠٠٠.
تعلم العالم دروسه من تجربة "أهداف الألفية للتنمية"، وحدد مكامن الخلل وحجم الثغرات التي منعت الأهداف من التحقق. رأى المعنيون أن مشاكل الناس وقضايا الشعوب يجب أن يساعد على حلولها من يعيشها لا من يقبع بعيداً عنها في مكاتب فخمة.
أخذ العالم أحلامه من معاناة الدول والشعوب إلى مدى أوسع وأبعد، وفِي ٢٥ أيلول عام ٢٠١٥، تبنّت الدورة العمومية السابعة عشرة للأمم المتحدة، ومعها ١٩٤ دولة عضواً، "أهداف التنمية المستدامة" (SDGs 2030) لإكمال الأهداف الثمانية السابقة والعمل على تحقيق أهداف جديدة (مجموعها ١٧ هدفاً) بحلول عام ٢٠٣٠.
هنا رفعت مبادرة الأهداف الجديدة سقف مسؤوليات الدول والمنظمات وأكدت الدعوة الى احترام كرامة الإنسان وحقوق الإنسان، واحترام إرادة الشعوب الفقيرة في تقرير مصيرها. تأتي هذه الدعوة في وقت تتسيّس فيه المساعدات (المستمرة في التدني) تحت تأثير التحالفات في الحروب المستمرة، ورهاب اللاجئين، واستشراء الفساد، لتزيد من صعوبة تحقيق الـ SDGs الطامحة بداية من محو الفقر والجوع مروراً بالصحة الجيدة والعافية إلى التغير المناخي والسلام والشراكة العالمية.
ينظر المعنيون الى أهداف التنمية المستدامة بكثير من التفاؤل أو الحذر أو التشاؤم كونها فضفاضة وغير مُركّزة. على سبيل المثال ينص أحد الأهداف على أنه يجب "بحلول ٢٠٣٠، التأكد من امتلاك الناس أينما وجدوا المعلومات والتوعية للتنمية المستدامة وسلوك حياة متماشياً مع الطبيعة"، كما حذّر البابا فرانسيس من الركون فقط الى لائحة تمنيات لا تتحقّق.
ليس من السهل بشيء أن يُدفع العالم الى شراكة جدية للمنفعة العامة لتحسين أحوال الناس المتراجعة، بالتعاون مع سلطات محلية نخرها التخلف والفساد والتسلط، في وقت تزداد فيه الحروب والصراعات وتتقلص الأموال والمساعدات والديمقراطيات.
ليس تمريناً عادياً ان تُربط المسألة الإنسانية بقضية التنمية- كما تشير الدراسات الحديثة- وأن يبقى النضال متركزاً على التنمية وأهميتها خصوصاً عند الأجيال الجديدة في البلدان الغنية، الى جانب مسألة كرامة وحقوق الناس الفقراء والمعدومين. هذا أبرز ما تروِّج له "أهداف التنمية المستدامة".
ان التزام الحكومات الجدي ضروري لإنجاح بعض الأهداف، وإن ترابط تلك الأهداف على مثاليته يعكس واقع حال الناس ومجتمعاتهم وطريقهم نحو حياة أفضل. هنا تدعو التقارير المتعلقة بإنجاح الأهداف الحكومة اللبنانية الى التخلي عن "اقتصاد الحرب" الموازي لاقتصاد الدولة وتمكين وتقوية المؤسسات العامة والحكومية التي سيلجأ اليها المواطن بعيداً عن اقتصاد الطوائف. يتطلب ذلك التزاماً سياسياً قوياً تتخذه الحكومة قد يكون الأكثر جدية منذ الطائف.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحة جنسية