معركةٌ بكلّ تجلّياتها يشهدها السجن المركزي. حديدٌ ونارٌ ودماءٌ ودخان. قتلى ومصابون. كرٌ وفرّ. احتجاز رهائن وعملية كومندوس لتخليصهم. الكباش القائم بين القوى الأمنية والسجناء بلغ أشدّه. انتفاضة رومية الأكبر في تاريخ سجون لبنان باتت على كلّ شفة ولسان. فلا يلبث أن يُقال إنها انتهت حتى تنفجر من جديد. السجناء يرفضون تصديق من نكث بوعده مرّاتٍ كثيرة، والمسؤولون يبذلون قصارى جهدهم لإقناعهم وإسكاتهم. ينطلق أحد هؤلاء من المثل القائل: «إن أردت أن تُطاع، اطلب المستطاع»، ليشير إلى أنّ تحقيق ما يطلبه السجن في الوقت الحالي يحتاج إلى إعجاز. غير أنّ آخرين يرون أنّ بإمكان المعنيين اتخاذ خطوات سريعة لا تحتاج إلى مراسيم وقوانين، كتحسين نوعية الطعام والمنامة ونظام المواجهة مع الأهالي، علماً بأن المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي أمر بتأليف لجنة من الضباط، يلتحق بها مهندسان من الهيئة العليا للإغاثة لمتابعة أوضاع تجهيز «السجن المركزي في رومية». الرؤية المطروحة ربما لا تنسجم مع ما استحالت إليه بنية السجن العامة. فالواقع يُنبئ بمأساة تحتاج إلى ما يُشبه إعلان حالة طوارئ لانتشال السجناء ومعهم القوى الأمنية من بين الركام.
أمس، عاد السجناء وأشعلوا مبنى المحكومين والمبنى «د» في السجن المركزي. احتجزوا نحو 25 مدنياً كانوا يقومون بأعمال صيانة داخل السجن، بالإضافة إلى عشرة عناصر من فرقة مكافحة الشغب، وفق ما روى سجناء لـ«الأخبار». حصلوا على ماكينات تلحيم الحديد ليعيدوا سيناريو تمرّدهم السابق بتدعيم أبواب السجن لإعاقة وصول القوى الأمنية، غير أن محاولاتهم باءت بالفشل. شطبوا أنفسهم وذبح السجين محمد س. نفسه، لكن المجموعة المهاجمة من القوى السيّارة تمكنت من تحرير الرهائن وإعادة السيطرة على مبنيي التمرّد.
امرأة تُحضر إطاراً، ترميه على الأرض وتُضرم فيه النار. تعود لتحضر آخر لتُطعمه للنار المشتعلة. المرأة المذكورة تصرخ بأعلى صوتها مهددة: «حياة ابني مقابل حياة ابنك يا زياد بارود». إنها والدة أحد السجناء، والدة إبراهيم علّام التي ذكرت أنها سمعت خبر وفاته دون أن ترى جثّته، مؤكّدة أنها لا تزال تجهل مصيره. المشهد المذكور يختصر نهار أمس الذي بدأ باعتصام أهالي السجناء في سجن رومية المركزي أمام قصر العدل في بيروت. حضر الاعتصام نحو خمسين شخصاً ليتظاهروا مطالبين بالاطمئنان على صحة أقاربهم في السجن، بالإضافة إلى تأكيد إصرارهم على حصول المواجهة مع أبنائهم، ولا سيّما بعد تسرّب معلومات عن وجود عدد كبير من الجرحى في السجن. الاعتصام استمرّ لساعات قبل أن يُفضّ، شكّل خلاله المتظاهرون لجنة رأسها السفير علي الخليل والإعلامية غادة عيد، دخلت إلى وزارة العدل لمقابلة وزير العدل الذي لم يكن موجوداً، فواجهت المدير العام لوزارة العدل عمر الناطور وأودعوه مطالب الأهالي، التي من بينها إنشاء لجنة تقصّي حقائق من الأهالي والإعلاميين لتدخل لمعاينة السجن. وعد الناطور بإيصال المطالب إلى نجّار، لكن جوابه لم يشف غليل المعتصمين. نزلوا إلى الشارع أمام مدخل قصر العدل وأشعلوا الإطارات، رافعين أصواتهم علّهم يُسمعون مطالبهم للمسؤولين. رشقوا مبنى قصر العدل بالحجارة، ما أدى إلى تحطيم الواجهة الزجاجية في مكتب المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش، فتناثر الزجاج على الكرسي الذي كان قد غادره في تلك اللحظة ونجا بأعجوبة.
التشنّج كان سيّد الموقف أمام قصر العدل، ولا سيّما بعدما أفاد أحد السجناء الذي أخلي سبيله أمس أن عدد قتلى اقتحام القوى الأمنية للسجن بلغ عشرة سجناء. وقد بدأ المتظاهرون بمناداة المسؤولين القضائيين بأسمائهم للنزول إلى الشارع لمواجهتهم، وسط انتشار أمني كثيف.
تترنّح خطوات احتواء ردود الفعل الناجمة عن أحداث الشغب في سجن رومية المركزي أمام نقمة الأهالي وصمود السجناء الغاضبين الرافضين للاستكانة، ولو تحت تهديد الحديد والنار. السجناء قالوا كلمتهم: حقِّقوا مطالبنا لنهدأ. الكلمة الآن للمعنيين. لذلك انعقدت أمس لجنتا حقوق الإنسان النيابية والإدارة والعدل، بحضور وزيري الداخلية والعدل زياد بارود وإبراهيم نجّار، بالإضافة إلى كل من المدعي العام التمييزي سعيد ميرزا والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي وقائد الدرك بالوكالة صلاح جبران وعدد من النواب. عُرضت المشكلة خلال الاجتماع ورُكّز على الشق القضائي باعتباره مسبّباً رئيسياً، لكن النائب العام التمييزي دافع بشراسة عن نزاهة القضاء دون أن ينفي حصول تأخير في بتّ الملفات، إذ أعاده إلى النقص الموجود في عدد القضاة، وأثار ميرزا مشكلة سَوق السجناء التي رأى أن لها دوراً رئيسياً في المشكلة، علماً بأنه كان قد تقرّر في الاجتماع الذي عُقد أوّل من أمس، بناء نظارة على كل من سطح قصر عدل بيروت وبعبدا لتلافي تأخير سوق السجناء بذريعة ضيق النظارات. كما تقرّر شراء عشرين آلية جديدة لسوق السجناء. وفي السياق نفسه، تدخّل النائب نواف الموسوي مذكّراً بتوصية وضعتها لجنة حقوق الإنسان النيابية طالبت بوضع لجنة قضائية لمتابعة أمور الموقوفين. وأدلى وزير العدل إبراهيم نجّار بأرقام عديدة، فلفت إلى أنّ عدد المحكومين في سجن رومية بجناية واحدة هم 749 سجيناً، يقابلهم 927 محكوماً بجناية أو أكثر وموقوفين بموجب مذكرات توقيف بقضايا أخرى. ولفت نجّار إلى أن الموقوفين دون حكم هم 1992 يُقسمون إلى مجموعتين تتمتّعان بخصوصية أمنية. فالمجموعة الأولى تضم موقوفي فتح الإسلام والقاعدة وعددهم 240 سجيناً. أما المجموعة الثانية فتشمل 532 موقوفاً بجرم التعامل مع العدو الإسرائيلي. كذلك أثار وزير العدل مسألة التبليغات باعتبار أن تأخير التبليغ يؤثّر في أمد التوقيف. وتحدّث نجار عن وجود 895 سجيناً أجنبياً، بينهم 673 موقوفاً دون أحكام.
وبالعودة إلى تفاصيل اجتماع أمس، تقرّر صرف 300 ألف دولار أميركي لبناء هنغار لقاعة المحاكمة في رومية، علماً بأنه جزء من مبلغ 7.5 مليارات ليرة لبنانية خُصّصت من أجل إصلاح السجن. وستشترى آلة تشويش على الاتصالات الصادرة والواردة من السجن المركزي، بالإضافة إلى كاميرات مراقبة وأجهزة سكانر للتفتيشات، فضلاً عن إصلاح الغرف والأبواب والطبخ والمركز الطبي. وذكر نجار أنه قدّم 932 طلباً لخفض عقوبات، فبتّ بـ 67 طلباً منها، وبقي 180 قيد الدرس. من جهته، ذكّر الوزير زياد بارود بأنه دقّ ناقوس الخطر عدّة مرّات في السابق، مشيراً إلى أنه رفع خطة إصلاح كاملة في 27/01/2009.
تجدر الإشارة إلى أن شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي أصدرت بياناً ذكرت فيه أنه جرى تأجيل موعد زيارات الأهل إلى أبنائهم في سجن رومية حتى يوم الإثنين المقبل.



نظام «علماني ــ طائفي»

دخل «حزب التحرير» على خط التمرّد الذي يشهده سجن رومية هذه الأيام. الحزب الإسلامي، الذي يطالب بعودة الخلافة الراشدة، ليس لديه سجناء حزبيون اليوم ضمن السجناء الإسلاميين في رومية، لكنه «يتضامن مع حقوق الناس جميعاً» وفق ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس المكتب الإعلامي أحمد القصص في بيروت أمس. ركزّ القصص في المؤتمر على «السجناء السياسيين، الذين بمعظمهم من الشبّان الإسلاميين، الذين اتخذوا رهائن ليكونوا قرابين للسيد الأميركي طمعاً بشهادة حسن سلوك في مكافحة الإرهاب». لم يبق من المسؤولين في الدولة إلا حمّله «التحرير» مسؤولية ما يحصل في رومية، من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومجلس النواب رئاسةً وأعضاءً، مروراً بالوزراء وصولاً إلى الجهازين القضائي والأمني. لم ينس القصص في المؤتمر أن يُذكّر اللبنانيين «ببعض ما جلبه عليهم النظام العلماني – الطائفي».
يُشار إلى أن السجناء الإسلاميين، بحسب ما هو ظاهر، لم يشاركوا في التمرّد الذي يشهده سجن رومية هذه الأيام، على عكس مرّات سابقة كانوا فيها من السبّاقين.