strong>غسّان سعود
تزداد يوماً بعد يوم، في المناطق المسيحية، ظاهرة الملصقات البيضاء التي كتب عليها بالأحمر: «إذا كنت من أتباع شهود يهوه... فلا تقرع هذا الباب». يتزامن ذلك مع بروز رجال ونساء يرتدون ثياباً رسمية، ويتأبطون كتباً مقدسة، ولا يتردّدون في طرق أبواب المنازل ودخولها لـ«نقل البشارة» والكلام على «خلاص أبدي»

  • إذا لم تكن من أتباع شهود يهوه... فلا تقرع هذا الباب

    تكشف وجوه الناس في بلدة رحبة العكاريّة عن طيبتهم وعفويتهم، وسرعان ما يبوحون بكل ما يعرفونه أمام سائلهم من دون الاهتمام بهدفه من السؤال. وهكذا، يُزاحمون بعضهم بعضاً في الكلام على «شهود يهوه» في بلدتهم. وتنوّه مقدمة الحديث دائماً بحسن سلوكهم وأخلاقهم العالية، يليها عرض مفصّل لغرابة مبادئهم من حيث نظرتهم الخاصة إلى المسيح، وانتظارهم «معركة هرمجدون»، ورفضهم نقل الدم معرّضين بذلك حياتهم للخطر. وفي الوقت نفسه، يبدو واضحاً غضب الناس من سلميّة «الشهود» ورفضهم تبنّي أي خيار سياسي.
    يوضح أحد المسنّين المجتمعين في ساحة «رحبة» أن «الشهود» باتوا يعدّون أكثر من نصف سكان البلدة. ويستغرب الرجل جرأتهم على قرع أبواب بيوت المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء. واللافت أن «الشهود» المشهورين بسعيهم الحثيث لتعريف الآخرين بتعاليمهم وإقناعهم بها، سرعان ما ينحون في اتجاه التكتّم الشديد مع الصحافيين، ويكتفون بتقديم نشرتهم المعتمدة «من هم شهود يهوه؟». وكل كلام آخر يفترض أن يبقى خارج التسجيل. ويبرّر أحدهم هذا الأمر بأن الوقت ليس ملائماً لشهود يهوه حتى يُحكى عنهم في الإعلام.
    أسلوبهم في «التبشير»
    فوّض يسوع «الشهود»، كما يقولون، بتبشير الفقراء، وتعزيتهم كل «النائحين». وأبرز طرقهم الذهاب من بيت الى بيت. ويحاولون تكرار زيارة المنزل نفسه مرات عدة سنوياً، طالبين التحدث دقائق قليلة الى صاحب البيت عن موضوع محلي أو عالمي مثير للاهتمام. ثم يحاولون التأمّل مع صاحب المنزل في آية أو اثنتين، إذا أظهر مضيفهم اهتماماً. ويُقدّمون في نهاية زيارتهم إنجيلاً ومطبوعات عدةويعقد شهود يهوه اجتماعات أسبوعيّة في «قاعات الملكوت المحلية» التي غالباً ما تكون شقة سكنية صغيرة. يبدأ الاجتماع بمحاضرة في موضوع عام، ‏يتبعها درس لموضوع أو نبوءة من الإنجيل باستخدام مجلة «برج المراقبة»، التي تنظّم التعاون بين الشهود في كل أنحاء العالم. وتُعقد اجتماعات شهرية لتدريب «الشهود» ليصبحوا منادين بالبشارة، ولمناقشة عملهم في البلدة التي يوجدون فيها.
    إضافة إلى ذلك، يجتمع «الشهود» أسبوعياً في بيوت خاصة،‏ في فرق صغيرة،‏ لدراسة تعاليم الإنجيل. ويستغلّون كلّ فرصة تتيح لهم التحدّث عن «البشارة» إلى الناس الذين يلتقونهم في حياتهم اليومية، سواء مع جارهم أو زميلهم في العمل. وينهي أحد «الشهود» كلامه على هذه الأمور بالتأكيد أنّ قول شيء وفعل شيء آخر يُعتبر رياء،‏ و«الرياء الديني» بحسبه جعل الملايين يبتعدون عن الكتاب المقدس. ومن هنا يشدّد شهود يهوه على صون مثالية سلوكهم المسيحي الذي يوصون الآخرين به. ويحاولون أن يكونوا طيبين و«أبناء لله» مع جميع الناس،‏ من دون استثناء.
    نموّ وانتشار
    يقول أحد الآباء الأرثوذكسيّين في عكار إنّ طائفة شهود يهوه تنمو بعيداً من الأضواء. ويكشف جورج رزق، أحد أبناء رحبة المؤسسين لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، أن وجود «الشهود» في بلدته يعود إلى أوائل الستّينيات. وقد نجحوا في التزايد بسبب غياب الكنيسة الفاعلة، وتقدّم كاهن الرعية في السن وعدم قدرته على متابعة الشؤون الكنسيّة، وبقاء البلدة سنوات عدة من دون كاهن بعد وفاته.
    بدأت مواجهة انتشارهم في عكار عام 1984 مع تعيين المطران بولس بندلي على رأس الأبرشية، وانطلاقة الشبيبة الأرثوذكسية. ويؤكد رزق أن وجودهم محدود، لكن «تجمعهم على بعضهم» يظهرهم كثراً. ويؤكد أن إحدى المحطات التلفزيونية نظمت حملة عنيفة ضد هذه المجموعات في منتصف التسعينيات، لكنهم تمكّنوا من إيقافها بأقل من أربع وعشرين ساعة. وعند فرض السوريين وحلفائهم حصاراً على «المنطقة الشرقية»، استمروا في تمرير منشوراتهم كأن شيئاً لم يحصل. ويستدل رزق من هذين الحدثين قوة هذه المجموعة وقدرتها على تخطي الصعاب. أمّا «الشهود» أنفسهم فيفضّلون عدم الكلام على العدد، ويتمنّون عدم الظهور كثراً لأن ذلك يوجه الأصابع في اتجاههم، و«يعوق متابعتنا لعملنا بهدوء».
    وكان «الشهود» قد بدأوا نشاطهم، قبل أكثر من مئتي سنة، عندما أسّس تشارلز تاز راسل فريقاً صغيراً لدراسة الكتاب المقدس في ولاية‏ بنسلفانيا الأميركية في سبعينيات القرن التاسع عشر. وفي تموز 1879،‏ ظهر أول عدد من مجلة «برج المراقبة». ويبلغ عدد الذين يقومون اليوم «بالشهادة من بيت الى بيت» مقدِّمين مطبوعات دينية ما يقارب سبعمئة ألف شخص، بحسب إحصاءات «برج المراقبة». وخاضت المجموعة عدة معارك قضائية، انتهت معظمها بفوزها بالأحكام.
    هكذا، من 360 شخصاً حضروا أول محفل كبير للشهود في ولاية إيلينوي في‏ الولايات المتحدة عام 1893، إلى‏ 253,922 شخصاً حضروا آخر محفل عقد في مدينة نيويورك عام 1958، توسع هائل للشهود الذين قرروا الانسجام مع تمددهم والاستعانة بكل الوسائل الممكنة للوصول إلى أكبر عدد من الناس حول العالم. والطريق إلى الدول العربيّة تبدأ من لبنان، الدولة العربية الوحيدة الموجودة على جدول إحصاءات «برج المراقبة».
    بماذا يؤمن شهود يهوه؟
    يعتقد شهود يهوه بمجموعة من الأمور التي تميّزهم عن الطوائف المسيحية المعترف بها. فـ«المسيح مات معلقاً على خشبة، لا على صليب»، «نحن الآن في وقت النهاية»، «الأرض لن تصير أبداً خربة أو خالية من السكان»، «الله سيزيل نظام الأشياء الحاضر في معركة هرمجدون»، «النفس البشرية تتوقف عن الوجود عند الموت»، «مجرد قطيع صغير من 144000 مؤمن يذهبون الى السماء ويحكمون مع المسيح»، «طبقة رجال الدين والألقاب الخصوصية هما أمران غير لائقين»، «إدخال الدم الى الجسم بواسطة الفم أو العروق يخالف شرائع الله»، «اسم الله هو يهوه»، «المسيح هو ابن الله وأدنى منه»، «الصلوات يجب توجيهها فقط الى يهوه بواسطة المسيح»، «لا ينبغي استعمال التماثيل في العبادة»، «الشيطان هو الرئيس غير المنظور للعالم»، «شرائع الكتاب المقدس عن الآداب يجب أن تطاع»، «الإنسان لم يتطور بل خُلق».
    وفي بشارتهم، يشددون على إظهار «علامات حضور المسيح الثاني واختتام نظام الأشياء». ويقولون إن الإنجيل يتحدث عن «حروب تشمل أمماً كثيرة،‏ مجاعات،‏ أوبئة،‏ زلازل،‏ ازدياد في التعدي على الشريعة،‏ معلّمين دينيين دجالين يُضلّلون كثيرين،‏ بغض واضطهاد لأتباع يهوه الحقيقيين». وهذه جميعها تشكل دليلاً على ان «المسيح حاضر بشكل غير منظور وأن الملكوت السماوي قريب». ويؤكدون أن عام 1914 بدأت تتوضح هذه الحوادث. و«وسمت نهايةَ أزمنة الأمم وبدايةَ الفترة الانتقالية من الحكم البشري الى مُلك المسيح الألفي». ويستندون إلى آيات أخرى للقول إن «المسيح سيجلس عن يمين الله في السماء حتى يحين الوقت ليصير ملكاً. ثم ستنشأ حرب في السماء تنتهي بطرح الشيطان الى الأرض،‏ ما يجلب ويلاً عليها،‏ وسيحكم المسيح في وسط أعدائه. والنهاية التامة للشر ستأتي بواسطة «ضيق عظيم» يصل الى الذروة في حرب هرمجدون،‏ ويتبعه مُلك المسيح الألفي الذي سيسوده السلام».
    زواج مدني... و«لا تقتل»
    على صعيد آخر، يكشف أحد شهود يهوه أنهم يتزوجون مدنياً، لأن الدولة لا تعترف بطائفتهم. وعند الوفاة، يُلقي «أحد الضليعين في الكتاب المقدس» خطبة، ويشدد على أن الإنسان «من التراب وإلى التراب يعود». ثم يُنقل المتوفي إلى المقبرة، حيث يدفن. وإذا عارض الأهل هذا الأمر، تحترم الطائفة قرار العائلة إقامة جنّاز في الكنيسة، علماً بأن أبناء الطائفة لا يدخلون إلى الكنائس. ومن الأمور التي تميز هؤلاء الأشخاص أيضاً، دخول المئات منهم إلى السجون خلال السنوات الماضية، بعدما اختاروا رفض «خدمة العلم» والبقاء في السجن طوال المدة المحددة لهذه الغاية. ويوضح أحدهم أنهم يحبون الوطن ويخدمونه من دون منّة. لكن ثمة وصيّة تقول «لا تقتل»، وهم كأتباع لله يؤثرون عدم القيام بهذه الأمور. ومن منطلق «محبة القريب والمسامحة»، لا يعتمدون العنف وسيلة لأية غاية.


    حريّة المعتقد
    يستند المحامي نزار صاغيّة إلى المادة «ج» من مقدمة الدستور اللبناني للقول إن لبنان يقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد. ومن هنا قانونيّة اجتماعات شهود يهوه، وممارستهم عملهم بحريّة. ويوضح أن منعهم من الاجتماع لا يجوز إلا إذا ثبت قيامهم بأعمال جرميّة، أو ارتكاب مخالفة للنظام العام تؤدّي إلى خطر على السلامة العامة. وهذه، بحسبه، بعيدة جداً عن ممارسة الشهود وإيمانهم.
    ويشير صاغيّة إلى تمييز القانون اللبناني بين الطوائف التاريخيّة وغير التاريخيّة التي يُحتمل أن تعترف بها الدولة وترخّص لعملها، شرط عدم تشريعها نظام أحوال شخصيّة خاص، والتزامها القانون المدني، غير الموجود. من هنا، فإنّ من شروط السماح لهم بالعمل، عدم تعارض تعاليمهم مع دساتير الطوائف الموجودة أصلاً.
    ويقول صاغيّة إن محاربة هؤلاء الأشخاص قانونياً ممكن عبر ثلاث تهم. الأولى هي التعارض مع دساتير الطوائف التاريخية. الثانية تهديدهم الأمن العام بسبب تشجيعهم على عدم تنفيذ الخدمة العسكرية (التي أُلغيت أصلاً). والثالثة تعارضهم والآداب العامة في ما يتعلق بموقفهم من نقل الدم. ويفرض القانون اللبناني على الطبيب أن يطلب قراراً من قاضي الأمور المستعجلة لتنفيذ نقل الدم سواء كان المريض الرافض لهذا الإجراء الطبي موافقاً أو غير موافق. ويُعتبر الوالد الذي يرفض نقل الدم لولده مرتكباً لجريمة.
    ويكشف صاغيّة عن قرار صادر عن مجلس شورى الدولة في 13/11/1996 رفض مراجعة تقدمت بها «جمعية برج المراقبة» (شهود يهوه) بتاريخ 5/7/1991، طلبت بموجبها إبطال القرار الصادر عن مجلس الوزراء برقم 19/1 تاريخ 27/1/1971 المتضمن الموافقة على مقترحات وزارة الاقتصاد الوطني ــ مكتب مقاطعة اسرائيل ــ الرامية إلى حظر التعامل مع الجمعية المذكورة. واستند ردّ «طلب إسقاط الحظر» إلى واقع أن القرار المتخذ في حقّ الجمعية هو عمل حكومي وضع موضع التنفيذ قراراً صادراً عن مؤسسة لها طابع دولي (الجامعة العربيّة). وبالتالي، فإنّ القرار يخرج عن دائرة صلاحية مجلس شورى الدولة.


    يوم الحساب قريب
    في رحبة، حيث معظم الناس يعملون في الزراعة أو في مؤسسة الجيش أو في التعليم، نسمع رجلاً ستينياً ينتمي إلى طائفة الشهود يهوه، يتحدث عن «نهاية الأزمنة». يقول إن «العالم يقترب بسرعة من نهاية الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية». ويتابع قائلاً إن «يسوع المسيح أنبأ بسلسلة من التطورات العالمية ستكون بمثابة علامة تحذيرية تنذر باقتراب يوم الحساب الذي سيقيمه الله». ويؤكد أن «حكومة سماوية برئاسة المسيح ستتشكّل وستُصلح كلّ الضرر الذي سبّبه البشر، وستحول دون حدوث الكوارث الطبيعية في المستقبل».
    وفي قرية مجاورة، ينشغل أحد أبناء الطائفة بالكلام عن الملائكة «التي تحميه». ويوصي محدّثه بتوجيه الصلوات والعبادة للّه وحده. ويجزم أن «ميخائيل، رئيس الملائكة، هو نفسه يسوع المسيح». ويُكثّف الشهود أسئلتهم لمحاوريهم عن قبولهم الانتماء إلى دين يتورَّط في الحروب ويتدخَّل في السياسة. ويتداولون تفاصيل عن سماح بعض الطوائف المسيحية في البلدان الغربية برسم المثليّين والمثليّات كهنةً، ومطالبتها الحكومات بتشريع زواجهم.
    ومن أبرز روايات الشهود يهوه «الموثقة بآيات من الكتاب المقدس»، كلامهم عن «صورة واضحة في الكتاب المقدس ‏‏لأربعة حيوانات عظيمة، أو وحوش ضخمة، تمثل «ملوكاً»، أو ممالك سياسية، تتعاقب على حكم «أمبراطوريات شاسعة».‏ ويقولون أيضاً إن العدد سبعة، في الكتاب المقدس، يرمز الى ما هو تام ‏أو كامل من وجهة نظر الله. أما العدد ستة، فيفترض أن يرمز إلى ما هو ناقص في عيني الله. وتكرار العدد «ستة» ثلاث مرات، أي 666، يشدِّد بقوة على هذا النقص. وهكذا، فكل من يحمل هذا الرقم سيتعرض للضربة الإلهية، غامزين من قناة حمل بابا روما لهذا الرقم.