سيرين قوبا
تحتفي بلدة معلولا السورية غداً بعيد قديسيها سركيس وباخوس، فتقيم احتفالها الخاص بالمناسبة مسلّطة الضوء من جديد على تراثها الثقافي والديني واللغوي الذي حافظت عليه لأكثر من ألفي سنة. معلولا، المتحدّثة بالآرامية، تكاد تكون أشبه بكتاب تاريخي حيّ يعيشه كل زوّارها

غداً تعود قرية معلولا بالزمن الى عصور المسيحية الأولى للاحتفال بعيد قديسيها سركيس وباخوس، فيتجمع في ساحة البلدة الآلاف من شباب القرية والزوار والمؤمنين، ويكون البعض منهم مزوّداً ببطحات من العرق. يقفون على شكل «عراضة» (مسيرة)، بانتظار مباركة الكهنة والمطارنة للحشود التي تليها إضاءة المشاعل وانطلاق العراضة نحو دير مار سركيس. هناك تطوف الجموع مع «العراضة» في شوارع معلولا الضيقة، معايدين أهل البلدة وزوارها على وقع عزف الفرق الكشفية تارة، وترداد «القوّالة» والزجّالين أبياتاً من الشعر الخاصة بالعيد تارة أخرى. وتبقى «هيصة» العيد الى أن تصل الحشود إلى الدير حيث تكون بانتظارهم الرئيسة المسؤولة فتنثر عليهم الماء المطيّب والأرز والورود ومن ثم تدعوهم إلى العشاء بعد أن تكون قد ذبحت ما يزيد على 20 رأس غنم في دار الكنيسة.
يستمر الاحتفال حتى بزوغ الشمس وإطلالة أشعتها من فوق الجدران الصخرية التي تسوّر معلولا، هذه القرية الواقعة في شمال شرق دمشق والتي حافظت على تراثها الثقافي والديني واللغوي لأكثر من ألفي سنة. فمعلولا تعتبر من أولى القرى التي اعتنقت المسيحية في منطقة بلاد الشام على يد الرسل. وهي «محمية طبيعية» إذ يسوّرها من ثلاث جهات جدار صخري يصل علوّه إلى أكثر من 1900 متر. والوصول إلى معلولا يتم عبر ممرين ضيقين في الجدار الصخري، ما حوّل المنطقة المحمية طبيعياً إلى مسكن للإنسان منذ عشرات آلاف السنين، فحفر داخل جبالها مغاور استخدم بعضاً منها مسكناً له أو معابد أو قبوراً.
أما ما يعطي معلولا اليوم طابعاً فريداً عالمياً فهو أن هويتها مرتبطة بشكل وثيق بالدين، إذ حافظ سكانها على لغتهم وشعائرهم الدينية وتقاليدهم وطرق البناء... التي تعود لأكثر من ألفي سنة. وتكاد تكون اليوم بمثابة كتاب تاريخي حيّ، يراه ويعيشه كل زائرسكان القرية يتكلمون الآرامية، وهي اللغة التي كانت متداولة بين سكان منطقة الشرق في العصور القديمة، وحتى في ظل الإمبراطورية الرومانية. والآرامية هي اللغة التي كان يتكلمها السيّد المسيح قبل ألفي سنة، لذا يعتبر أهل معلولا أن تكلّمها وتلاوة الصلاوات بها يمحو الزمن الذي يفصلهم عن نشأة المسيحية ويحوّل لغتهم الى «لغة إيمانية». وحتى اسم قريتهم مشتق منها، إذ تعني كلمة معلولا الآرامية المضيق نسبة الى ضيق الطريق المُوصِلة إليها.
تدور حياة أهالي البلدة حول الطقوس المسيحية وتدخل الشروحات الدينية في كل المواضيع، حتى تلك المتعلقة بالطبيعة. وتعطي «الأساطير» المحلية لتكوين القرية الجيولوحي رونقاً دينياً: فقد شقت الجبلَ القديسة الشهيدة تقلا أثناء هروبها من اضطهاد أهلها وذويها. وحينما وصلت الى معلولا أقنعت النساء الوثنيات بالإيمان بالمسيح قبل أن تموت في أواخر القرن الأول الميلادي. لذلك يعرف الممر اليوم بـ«فج مار تقلا» وهو مزار للسياح والزائرين. والجدير بالذكر أن العديد من كنائس القرية يحمل اسم القديسة تقلا.
تقسم بلدة معلولا حالياً الى قسمين: معلولا الحديثة ومعلولا القديمة. منازل القرية وكنائسها القديمة هي كهوف محفورة في الصخور. لذا كل غرفها لها ثلاثة جدران مبنية، أما الرابع فهو من صخر الجبل الذي يتكئ عليه البناء. وكلّ الجدران مطلية باللون الأزرق، وهي تشكل لوحة أبدعتها الطبيعة نحتاً مع يد الإنسان القديم.
أما القرية الحديثة فمعظم بيوتها مبنية بالصخر، وهي متدرجة نحو التل الصخري. مشهد القريتين، اللتين يفصلهما عن بعض ممران جبليان، يولّد لدى الزائر صورة القرية التي ما زالت تستعد بمنازلها المعلقة ومغاورها المجوفة لرد الغزاة عن أسوارها الصخرية. وحتى يومنا هذا لا يمكن فصل صخور معلولا عن إنسانها ولا يمكن الصخور أن تترك معلولا وحيدة.
معلولا الحافظة للطابع التراثي والتاريخ الديني والآرامي حافظة أيضاً لأقدم الكنائس المسيحية في العالم بعدما شُيّدت على أنقاض المعابد الوثنية لتعلن انتصار المسيحية عليها. وتعتبر كنيسة دير مار سركيس وباخوس إحدى أقدم كنائس معلولا الأربعين. وتشرح المسؤولة عن الدير والمرشدة السياحية نسرين حداد «أن الكنيسة شُيّدت ما بين 312 و325 ميلادي على أنقاض معبد وثني لا تزال مذابحه تستعمل حتى اليوم في الكنيسة التي زيّن داخلها بقناطر وعقود حجرية. وفي الكنيسة اليوم ثلاثة مذابح رمزاً للثالوث المقدس. أحدها من الرخام على شكل نصف دائرة. وبحسب الشروحات المحلية، يعود هذا المذبح الى فترة ما قبل المسيح. أما المذبح الثاني فهو منحوت في الحجر ومستطيل الشكل. وقد وضع هذا المذبح تحت قبة محفورة في الصخر تجسّد السماء ومزيّنة جدرانها برسم للسيدة العذراء نُفّذ عام 1824 بحسب التقليد البيزنطي».
وما تجدر الإشارة إليه هو أن لدير مار سركيس وباخوس مجموعة مهمة جداً من الأيقونات التي رسمها فنانون سوريون وعالميون مشهورون جداً، وأعطوا التقليد البيزنطي طابعاً محلياً. وبعض من أيقونات معلولا سينقل الى معهد العالم العربي في باريس للمشاركة في معرض الأيقونات العالمية.
ومصدر الرزق الأساسي في معلولا اليوم هو السياحة الدينية، إذ يزور أبناء الطائفة المسيحية في سوريا والعراق ولبنان وبلدان أوروبية عديدة معلولا باستمرار. البعض منهم يعتبر الزيارة حجّاً، أما البعض الآخر فيراها زيارة ثقافية دينية للتعرّف بمعاقل نشأة المسيحية في الشرق. ويعتبر عيد القدّيسين سركيس وباخوس بمثابة موسم حجّ فتتجهّز الأديرة والمحال التجارية والبيوت قبل أسبوع بكل ما يلزم لتلبية حاجات الزائرين الذين يصلون بالآلاف للمشاركة بالمسيرة والصلاة والمائدة المباركة داخل جدران الدير.



معهد للآرامية

حافظ أهالي معلولا على لغتهم الأم الآرامية من الآباء والأجداد لنحو ألفي سنة. ولكي تعمّق هذه المعرفة أنشئ في القرية أول معهد في العالم لتعلم الآرامية كتابةً ونطقاً. وتكثف حالياً الدورات التعليمية لإتقان كتابة الآرامية لأن معظم سكان هذه القرى ـــــ أكثر من 18 ألف مسيحي ومسلم ـــــ يتحدثون بلغة السيد المسيح ولكنهم لا يحسنون كتابتها. ومرحلة ما بعد الدورات قد تؤهل للبدء بمطبوعات بالآرامية... التي ستدخل حينها عالم
العولمة.