عرفات حجازي
مع الزيارة الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط إلى لبنان، مكرساً دخول بلاده على سكّة المساعي والمبادرات، أخذ التفاؤل مساحة إضافية، رافعاً حظوظ التسوية واحتمال نجاحها. فقد لمس رئيس الدبلوماسية المصرية من خلال لقاءاته الماراتونية وخلواته السريعة مع بعض الأقطاب والمرجعيات أن الأمور ليست مفتوحة على مزيد من التأزيم بقدر ما هي مفتوحة على توافق وتسويات، وأن قطار الاستحقاق قطع مراحل ليست بالقليلة، وخصوصاً بعد حشره في مدى زمني ضيق وتجاوزه الكثير من الألغام وتخطي التهديدات والتلويح بالخيارات القاسية، وأنه وجد من خلال مناقشاته مع القيادات رغبة في اتمام الاستحقاق بالتفاهم، وأن المسألة تحتاج إلى جملة عوامل عربية ودولية ضاغطة نحو التفاهم ووقف كل أشكال التدخل الخارجي الذي قد ينسف الدينامية السياسية التي أطلقتها عملية التوافق اللبناني ـــــ اللبناني على أرضية تفاهمات سياسية مشتركة توصل إليها الطرفان، وهو ما تحقق منه لدى اجتماعه المغلق مع قطبي الحوار نبيه بري وسعد الحريري.
هذه الخلاصة رفعها أبو الغيط على عجل إلى الرئيس حسني مبارك الذي أصر على تسلمها في الليلة نفسها التي أنهى فيها وزير خارجيته محادثاته في بيروت، دفعت الرئيس المصري إلى الطلب من أبو الغيط استكمال حراكه مع العواصم العربية والأجنبية المؤثرة، بما يظهر إصراراً مصرياً على ترك لبنان يعالج شؤونه بنفسه وعدم استخدامه ساحة لتصفية الحسابات وصراع المحاور، وإبلاغ الجميع أن مصر لن تتساهل مع أي محاولة لدفع لبنان إلى منزلقات خطيرة، وستتدخل في الوقت المناسب لحمايته من الفتنة وعدم أخذه إلى الفراغ.
ومع إجراء الوزير المصري اتصالات واسعة شملت وزراء الترويكا الأوروبية الذي زاروا لبنان الأسبوع الماضي، ونظيريه السعودي سعود الفيصل والأميركية كوندوليزا رايس، والتي تزامنت مع أنباء عن زيارة لمدير المخابرات المصرية عمر سليمان لدمشق في الساعات المقبلة، فإن السؤال الذي طرحه المتابعون هو: هل تنجح الدبلوماسية المصرية حيث فشل الآخرون، أم تصطدم بالحواجز نفسها التي اصطدمت بها المبادرات الأخرى؟
ما من أجوبة قاطعة، فالمناقشات التي جرت في الغرف المغلقة بين أبو الغيط والبطريرك نصر الله صفير، وبينه وبين بري والحريري لم يرشح عنها الكثير، اذ استعان الرجل على قضاء حاجاته بالكتمان، وخصوصاً بعدما أشيع الكثير عن أنه طرح أسماً محدداً من بين الأسماء المتداولة في الكواليس لمرشحين تسوويين. وبالرغم من حرص أبو الغيط والمسؤولين المصريين على نفي ما أشيع عن طرح اسم أو أسماء، الا ان النفي لم يقنع أحداً لأن المعطيات التي سبقت المبادرة المصرية تؤكد ما قيل عن المهمة الأساسية التي يحملها الوفد، والتي تتجاوز التمنيات والنصح والنيات الحسنة. فهناك مبادرة طُرحت على نطاق ضيق، وفيها تلميح إلى شخصية قائد الجيش العماد ميشال سليمان كحالة يمكن أن تشكل جامعاً مشتركاً. وقد أعلن نائب رئيس الحكومة السابق ميشال المر صراحة أن هناك بالفعل مبادرة مصرية، لكن من دون تسمية، لافتاً في الوقت عينه إلى أنه إذا فرَضَت التسوية في هذه الظروف الأمنية والسياسية أن يكون سليمان رئيساً فلا شيء يحول دون تعديل الدستور، ويمكن بالتفاهم إنجاز هذه الخطوة خلال ثلاثة أيام.
وما قاله المر، الخبير في أسرار الكواليس، تقاطع مع تقدير دبلوماسي عربي، أن حالة الانسداد التي وصل إليها الوضع تستدعي تدخلاً من النوع الحاسم والمقرر لتسهيل التوافق، وأن مصر لم تكن بحاجة إلى التقاط صور لوزير خارجيتها، وهو يجول على مقارّ المسؤولين لرفع العتب، فالخطوة المصرية كانت مدروسة ومنسقة مع الأميركيين والأوروبيين وبعض العواصم العربية، وإذا كانت مصر قد لمحت إلى اسم توافقي ضمن باب المساعدة والتسهيل، وهي على استعداد لدعم أي خيار آخر يتفاهم عليه القادة اللبنانيون. إلا أن أبو الغيط الذي ترك بيروت مطمئناً إلى أن الأفكار التي طرحها سيجري تشاور أوسع بشأنها بين القادة اللبنانيين، يدرك في الوقت عينه صعوبات التفاوض ومدى تشابك الخيوط التي يفترض أن تنسج ثوب الحل الذي يتجاوز موقع الرئاسة إلى ما بعده. إلا أنه مع ذلك بدا مرتاحاً للمراحل المتقدمة التي قطعها حوار عين التينة، وقد سمع من بري والحريري أن الكثير من عناوين المرحلة السياسية المقبلة وقضاياها الشائكة قد جرى التفاهم عليها، ومعظمها سبق أن حسم على طاولة الحوار، حتى موضوع الحكومة الجديدة رئيساً وبرنامجاً تم تجاوزه، وباتت كل الأمور جاهزة لإعلان الاتفاق باستثناء الرئاسة الأولى. وقد ثمّن أبو الغيط موقف الرجلين اللذين تركا لبكركي أن يكون لها الدور الرئيسي والكلمة الحاسمة في هذا الاستحقاق، وأفسحا المجال أمامها كي تأخذ مبادرتها كامل أبعادها اقتناعاً منهما بأن التوافق المسيحي سيكون مدخلاً إلى التوافق الوطني. لكن أبو الغيط سمع من الرئيس بري كلاماً مفاده أنه في حال عدم توصل الكنيسة المارونية وزعماء الطائفة إلى اتفاق بشأن الموضوع الرئاسي، وإذا رفض البطريرك نصر الله صفير تجرع الكأس المرة بتسمية مرشح أو مرشحين للرئاسة، «يصبح من حقنا وواجبنا أن نتولى الأمر لمنع الوصول إلى الفراغ، بحيث لا يبقى أمامنا سوى حسم الخيارات ولو بالكي حرصاً على مصلحة لبنان وعلى مصلحة الموارنة بالذات».