فايز فارسأولها نكتة. أبو ستاف أرسل ابنه ستاف إلى أميركا للدراسة في جامعاتها. صديقه أبو العبد جاء يسأله: ماذا سيدرس ستاف في أميركا؟ أجابه: طب. فانتفض أبو العبد قائلاً: ضروري طب تأعرف شو راح ابنك يدرس في أميركا. ثانيها جد. سأل طبيب متدرّج أستاذه المشهور: ما هي أهم غلطة ارتكبتها في حياتك المهنية؟ أجابه الأستاذ وبكل بساطة: يوم ساعدت مريضاً على الشفاء من الزيارة الأولى واكتشفت في ما بعد أنه ثري!
لا أعرف أماً أو أباً في لبنان، ما عدا أمي وأبي رحمهما الله، لم يحلم برؤية ابنه طبيباً، ليس بسبب ميل إلى خدمة الإنسانية المعذبة أو إعجابه بهذه المهنة ـــ الرسالة، بل لأنها ستمكّنه من تحقيق ثروة طائلة وجاه كبير وبسرعة فائقة في بلد تدير شؤونه وتتحكّم في رقاب أهله طبقة سياسيّة أقل ما يقال فيها إنها هي التي ابتكرت منهجية «الفوضى المنظمة» قبل ولادة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن بسنوات.
غريب هو أمر هذا القطاع الحيوي. فعلوم الطب تتطور وعلوم الصيدلة تتقدم، وبشكل رائع وواعد بالشفاء من أمراض سارية ومستعصية، بينما دور الأطباء والصيادلة والمستشفيات يتراجع حتى لا نقول يتدهور. والسبب هو حالة الطمع المتعاظم بهدف كسب المال الكثير والسريع والتنطّح لرئاسة مجلس بلدي هنا أو شراء مقعد نيابي هناك، أو الفوز بقلب عروس مدلّلة جميلة.
في كل بلدان العالم تخضع تعرفة الخدمات لما دون الحد الأدنى للأجور كمؤشر اقتصادي اجتماعي في تحديد قدرات المواطن على دفع البدل العادل، ما عدا لبنان، حيث كل قطاع يشد اللحاف إليه على حساب القطاعات الأخرى والإمكانات الماديّة المتاحة لدى المواطن.
ويعلو صوت الطبيب أو الصيدلي قائلاً: إنّ حصولي على شهادتي قد كلّفني ما يفوق مئة ألف دولار أميركي. صحيح هذا الكلام ومفهوم ومقبول. لكن الأصح منه هو أن يفهم هذا الطبيب أو الصيدلي أن استرجاع قيمة هذا «الرأسمال» المادي وفوائده، لو كان على شكل قرض مصرفي، لا يكون خلال سنة أو سنتين بل خلال سنوات طوال. في الماضي كان الطبيب أو الصيدلي هو الأقرب إلى قلوب الناس يوم كان هذا الطبيب يقنع بما يؤمّن له امتلاك البيت اللائق والسيارة المتينة والحياة الكريمة لعائلته. لكنه تحوّل اليوم في أوقات فراغه إلى مضارب في البورصة أو تاجر عقارات وسيارات، إضافةً إلى مظاهر البذخ والثراء يفاخر بها بين الناس كالطاووس.
طبعاً أنا لا أقصد هنا في كلامي الصادق أكثرية الأطباء والصيادلة الذين يتحمّلون بصبر وزْر تداعيات أزمة اقتصادية اجتماعية مستفحلة لا ترحم أحداً. بل أقصد تلك المجموعة من الأطباء الاختصاصيّين الذين لا يرحمون مرضاهم ولا يهمهم مصير الناس لأن الأهم لديهم هو تحقيق مدخول يومي لا يقل عن الألف دولار أميركي كحد أدنى. ويسأل المواطن عن الأسباب التي تدفع بنقابة الأطباء إلى المطالبة بزيادة تعرفة المعاينات الطبية في بلد أكثر من نصف سكانه لا يملكون أية تغطية اجتماعية استشفائية؟ وما الذي دفع بنقابة الصيادلة إلى منع أعضائها من إجراء حسم على سعر الدواء في بلد أكثر من سبعين في المئة من سكانه لا يملكون تغطية ضمان تخفّف عن كاهلهم المثقل بأكثر من حاجة معيشيّة أساسيّة؟ لقد غشّتهم تلك الزيادة الهزيلة التي نزلت على الحد الأدنى للأجور. فهل يعلمون مثلاً هم والحكومات المتعاقبة أن مئات اللبنانيين المحتاجين يقصدون الجارة سوريا لتلقي العلاج المناسب في مستشفياتها.. وبكلفة زهيدة؟
مرة أخرى نسأل حكّامنا متى ستبادرون إلى تطبيق مبدأ التصريح الضريبي الإلزامي السنوي لكل من بلغ الواحدة والعشرين سنة من عمره وما فوق واعتماده قاعدةً إحصائية سليمة تتعرّف من خلالها الدولة العليّة، دولة المؤسسات التي يتشدق بها كل ما خطر على بالهم، إلى مواطنيها الميسورين والمحتاجين، وتبني على أساسها سياساتها الاقتصادية الاجتماعية الإنمائية العادلة المتوازنة، أقلّه بهدف ردم هذه الهوة الساحقة القائمة بين الناس، وسد هذه الفجوة العميقة التي تفصل بين جميع القطاعات والقضاء على هذه الفوضى التي دمّرت كل مقومات المجتمع والدولة.