خالد اللحامانظر إليها، ألا ترى كيف تتمتع بـ«طلائع تقدمية» بارزة، و«قواعد شعبية» لافتة، تسير على مهل، وبخطوات مدروسة، مثل «البيان الوزاري» في جلسات إعداده، وكأنها تخبئ خطواتها السريعة لـ«جلسة المناقشة النيابية».
أضحك، رغم أن زمان الضحكات ولّى، فالكل منشغل من البسمة باللهاث خلف رغيف الخبز وأقساط المدارس، وتكاليف الجامعة، وإيجارات المنازل، وفواتير الماء والكهرباء والهاتف الشهرية، ويفكر في كيفية توفير هذه المدفوعات: إمّا عن طريق جمع الديون كلها في مكان واحد من خلال قرض مصرفي من أحد البنوك التي تقدم تسهيلات للممول على «قرض شخصي»، وإمّا عن طريق بيع السيارة التي يمتلك، فكيف يمكن أن يكون للضحك المسموع كضحكات ابنتي ميساء مكاناً في حياته!
يستمر صديقي في كلامه، ونحن ندخّن النرجيلة في «مقهى الصلح». أتطلع باتجاه سوق الصاغة في المزرعة متذكراً أيام العزّ، فيما الصديق يرى أن نظراتي تتابع تلك الصبية العابرة، ذات البنطال الأسود المنخفض الحصر، والـ«تي شيرت» النصفية التي تظهر ما يخفى، وخاصة «خيط السترينغ» الرفيع المرتفع لدرجات عن البنطال...
لقد التفتت إلينا، ويبدو أنها سمعت ما نقول. ألا ترى نظراتها المشابهة لمواقف «جبهة الرفض»؟ إنّها تذكرني وأنا جالس أتطلع إليها بتلك البطاقة الأولى التي وزعت علينا في أواسط الستينيات وعليها صورة أسير من المقاومة، وقد فاتحتها «ولقد كسرت القيد قيد مذلتي / وسحقت جلادي وصانع نكبتي»، فأنا أسير هذا الكرسي، وهي تتبختر على الطريق أمامنا ولسان حالي يقول «ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيب».
أضحك من جديد، يمر أمام المقهى ملتح، ينظر إلينا بغضب، وكأننا «أعداء القضية» أو «عملاء الصهيونية والاستعمار»، فنحن نتابع حركة الفتاة العابرة بعيون تكشف علاقة أصحابها بـ«الفياغرا»، وهي تلك المادة الاستعمارية التي يروّج لها «المفسدون في الأرض». ربما يكون على حق في نظراته، فهنا نمارس عملية «قتل الوقت»، في الوقت الذي تمارس فيه زعاماتنا العربية عملية «قتل التاريخ»!
ويقول صديقي متسائلاً: ما القصة؟ لا أجيب. يكرر الشاب السؤال ويتابع طريقه إلى الأمام، بينما تقف الصبية أمام واجهة أحد محال الصاغة متأملة الأساور والخواتم والعقود، لا أعرف الغاية من السؤال: هل يسأل عن الصبية المتوقفة أمام الواجهة، أم عن الشاب الذي لم تعجبه نظراتنا ولا مجلسنا؟ لذا أكتفي بالصمت مرة أخرى.
أما الصديق، فيكشف عن الهدف من السؤال: انظر إلى هذا الطول، لديها «سحبة» سيقان تذكرني بـ«رحلة الألف ميل» التي تبدأ بخطوة، فما بين المقهى وسوق الصاغة هي تخوض «مسيرة النضال» الطويلة، الذاهبون والآيبون يلتفتون إليها وكأنهم يتخوفون من «حاجز طيار» قد وضع فجأة على الطريق أمامهم.
تفتح الصبية حقيبتها، تخرج الجهاز الخلوي، تضغط وتبدأ بالكلام، وكأنها ستستأذن الحبيب أو الزوج أو الأهل لشراء قطعة من المجوهرات المعروضة في الواجهة، وتشير أثناء الكلام إلى الواجهة وكأنها تصف القطعة الموجودة... يقول الصديق «فداك الأمة العربية كلها»، أضحك من جديد لأمة رخيصة الثمن لهذه الدرجة عند صاحبنا.
«كم أهوى أن تكون حبيبتي، لكنت وقّعت اتفاقية «كامب ديفيد» وحتى «أوسلو» و«العقبة» لكي ترضى عني فقط»، يتابع صديقي تعليقاته، بينما ترتفع على طاولة مجاورة أصوات بعض «لاعبي السبق» من الرواد الكبار في السن، عجباً لأمرهم! يفكرون في الخيل وأمامهم «الفرس الأصيلة» على بعد خطوات، يقول، أتذكر كلمات جدتي: الذهب الرخيص تراه في الواجهات، أما الأغلى والأثمن فلا يعرض إلا في واجهات داخلية محصنة بأجهزة إنذار، أو في الخزائن الحديدية المغلقة بإحكام...
يدور حديث على طاولة ثالثة عن «حرب تموز» وعن «أشرف الناس» و«أكرم الناس»، فيما تعبر ثلة من الصبايا أمام المقهى، وهن يتمايلن بغنج ودلال، وتدل ثيابهن على أنّ أسعار القماش باتت مرتفعة جداً، لأنهن اضطررن إلى تقصير التنانير التي باتت تكشف أوتوستراد بيروت ـــ صيدا وصولاً إلى «ملتقى النهرين» حسب رأي الصديق الذي يعود إلى تمنياته، ثم يفاجئني بالسؤال: سمعت بـ«شرش الزلّوع»؟
أضحك من جديد، فقد كان الحوار يدور بيننا قبل سنوات، وفي الموقع نفسه عن «تشي غيفارا» و«ماوتسي تونغ» وثوار «الألوية الحمراء» و«الجيش الأحمر الياباني» و«كارلوس» وحركة القوميين العرب، بينما تحوّل اليوم للحديث عن الساتلايت والبلحة التي اشتراها بعشرة دولارات لمشاهدة الأقنية «المشفرة»، حيث «النضال» على أشدّه بين «البروليتاريا والرأسمالية المتوحشة» في السرير بعد نوم الأولاد.
أسأله: ما الذي تغير؟ ولماذا تبدلت مواقفك إلى هذه الدرجة؟ يستخف بكلماتي: أما زلت على حالك؟ تعلّم يا صاحبي تعلّم، مواقفي لم تتبدل، لكن «ساحة النضال» تغيرت، لقد استبدلنا معسكرات التدريب بـ«شارع مونو» و«انتفاضة الجماهير» بالصراعات التي تدور في «الأقنية المشفرة»، وفي كلتا الحالتين كنا فقراء وصرنا أكثر فقراً ألا يحق لنا أن نعيش؟
ألفّ نربيش النرجيلة حولها، أسأل عن الحساب، أدفع، وأخرج إلى الطريق مودعاً صديقي، أقترب من إحدى عربات الخضار والفواكه عند الزاوية، أشتري للأولاد بعض الفواكه، أدفع ثمنها 18 ألف ليرة، وهو ثمن أول شقة اشتريتها ثم اضطررت إلى بيعها لدفع تكاليف الجامعات للأولاد.
أوقف السيارة العمومية الأولى العابرة أمامي بعد أن أعلمه بمقصدي. أفتح الباب وأدخل إليها، أتطلع إلى جانبي بحذر، فأجد غابة من السيقان المكشوفة، أتذكر غابات فيتنام التي كنا نتابع أخبارها بشغف فرحين بانتصارات الشعوب... اليوم صار الانتصار مطلوباً في «مواقع نضال» أخرى... وتنزل دمعة.