إيمان الجابر
هنا في بيتها، الذي يقع في منطقة المزّة، اعتادت استقبال الصحافيين والأصدقاء. جدران الصالون مكتظّة بالذكريات: صور، شهادات تقدير، بضع لوحات رسمتها بريشة الهاوية. كل ما في البيت يضجّ بالحياة وإيقاعاتها... نبيلة النابلسي كما يعرفها المقرّبون منها امرأة مفتونة بالحياة. علاقتها بأصدقائها وأسرتها مليئة بالحب والدفء. لكن، لماذا يحتلّها الآن كلّ هذا الهدوء والسكون؟
تجلس قرب النافذة، إلى جانب نباتاتها، كي تبقى على تواصل مع الشمس. «أحب نباتاتي، كأنها تعيش معي»، تقول، ثمّ تبدأ بتعداد أسمائها وأنواعها. «أحزن عندما تصفرّ ورقة أو تمرض نبتة. أحارب الاكتئاب من خلال النظر إليها». هل سبب الاكتئاب ابتعادها عن التمثيل؟ «عملي هو حياتي. وإن لم أعمل، أشعر بأنني لا أعيش»، تقول. «لكنني أعتذر عن عدم تأدية أدوار تطرق بابي مرغمةً». أقعدها المرض في البيت منذ أكثر من سنة... حالة من الوهن والتعب تسيطر على جسدها، وقد خسرت الكثير من وزنها.
بغياب وجهها، الذي ينضح طيبة وبشاشة، عن الشاشة، غاب حضور الأمهات. فقد أدت نبيلة النابلسي غالباً دور الأم، بأنماط عدة، فجسّدت نساء كن يستوقفنها في الطريق ليخبرنها كم كانت تشبههن. آمنت نبيلة النابلسي بآلامهن وآمالهن، هي التي اختبرت كل ذلك في سنّ مبكرة...
ولدت نبيلة لأب من أصول تركية وأم سورية، وقد عانت أسرتها من مشاكل عائلية بسبب الخلافات بين الوالدين. «كان والدي رجلاً حالماً ومغامراً، وأمي امرأة واقعية جداً». موت والدها المبكر جعلها تخوض غمار العمل وهي صغيرة، كي تعيل والدتها وإخوتها وهي أكبرهم. في الثالثة عشرة من عمرها، عملت على آلة كاتبة في المكاتب التجارية والصحافية، ثمّ ممرضة لسنتين. «حصلت على شهادة الإعدادية والثانوية من خلال الدراسة الحرة، بسبب اضطراري إلى العمل».
في قلب تلك الفتاة، ذات الجمال الأخّاذ، استعرت رغبات وأحلام بعيدة عن واقعها المعيش. كان العمل في السينما أحدها وأهمها. تصويرها بعض الإعلانات كان متنفّساً معقولاً. في تلك الأيام، كانت الإعلانات تعرض في صالات السينما قبل عرض الفيلم، ومنحتها دخلاً مادياً إضافياً.
ذات يوم، أثناء العمل في المكتب الصحافي، حدث ما لم يكن متوقعاً. «كنت أطبع أحد المقالات، عندما دخل شاب وألقى السلام وراح يتأملني. تجنبت نظراته الفاحصة من خلال متابعة عملي». بقيت مطأطأة الرأس، منهمكة في عملها، فباغتها بسؤاله: ألست الفتاة التي تظهر في الإعلان؟ أجابته بخجل: بلى. أنت وجه غير محروق، قال لها المخرج نبيل المالح. ملامح وجهها المتعب تبدّلت، وهي تخبرنا هذه الحادثة. «لم أفهم معنى كلمة «وجه غير محروق» حينها. لكنني طرت من السعادة وكاد يغمى عليّ عندما سألني إن كنت أحب العمل في السينما. سؤال قلب حياتي رأساً على عقب!».
حصلت بعد ذلك اللقاء على أول أدوارها السينمائية في الجزء الأول من ثلاثية «رجال تحت الشمس» (1970) الذي أخرجه نبيل المالح عن رواية غسان كنفاني. مثلت إلى جانب خالد تاجا ويوسف حنّا، وكشفت عن مقدرة أبعد من جمالها، من خلال دور فلاحة فقيرة حامل. بعد النجاح الذي حققته في هذا الفيلم، انهالت العروض عليها وشُرِّعت أمامها أبواب السينما في القطاعين العام والخاص. كانت السينما في القطاع العام تسعى إلى طرح أعمال ذات مضامين وأفكار مهمة وتقدمية. أما سينما القطاع الخاص، فأرادت استثمار جمال المرأة الشابة بأفلام ذات طابع تجاري وترفيهي. لكنّ العمل في الأفلام المشتركة بين سوريا ومصر ولبنان كان أكثر ما يسعدها. «أعتزّ بأفلامي في القطاع العام، وكانت معظمها أفلاماً ذات قيمة فنية عالية وأفكار هادفة، مثل «العار» (1974) لوديع يوسف، و«وجه آخر للحب» (1973) لمحمد شاهين، إضافةً إلى بعض الأفلام في القطاع الخاص مثل «دمي ودموعي وابتسامتي» (1973) لحسين كمال عن سيناريو إحسان عبد القدوس مع نجلاء فتحي ونور الشريف وحسين فهمي، و«نساء للشتاء» (1974) لسمير الغصيني»...
استمر عملها في السينما حتى منتصف السبعينيات، ثمّ «بدأ تراجع عجلة الإنتاج السينمائي في سوريا». حينها قررت أنّه آن الأوان للزواج والأمومة... «تزوجت لأنجب. كانت ولادة ابني سامر عام 1976 أعظم حدث في حياتي. لم أشأ الابتعاد عنه وهو في عزّ حاجته إليّ. بقيت في البيت ولم أعمل حتى ولادة ابني الثاني أنس عام 1983».
«لم أكن أحب العمل في التلفزيون»، تبوح لنا نبيلة النابلسي، «لا بأس إن كان العمل فيه بديلاً موقتاً عن حلم العودة إلى السينما». أول أعمالها التلفزيونية كان «دموع الملائكة» الذي حمل توقيع المخرج غسان جبري. لكنّ حلم العودة إلى الشاشة الكبيرة بقي حلماً، رغم مشاركتها بشريط «باسمة بين الدموع» عن رواية الأديب الراحل عبد السلام العجيلي وإخراج وديع يوسف (1986)، و«ناجي العلي» لعاطف الطيب (1992).
مع فورة الدراما السوريّة وانتشارها، أخذت المسلسلات مساحةً مهمة في حياتها المهنيّة. حققت في التلفزيون نجاحات كثيرة، وأسست لنفسها نجومية من نوع خاص ضمن أدوار قلّما تصنع نجومية ممثلة. لمعت في أدوار الأم التي تُعدّ نهاية المطاف بالنسبة إلى أي ممثلة. كانت تلك الأدوار بالنسبة إليها بداية لتسجيل بصمة مميّزة تخصها وحدها. «لم أكن الأم الهامشية أو جسراً لعبور شخصيات أخرى. قمت بدور الأم باكراً في حياتي المهنية. كنت أخفي عمري بالماكياج، لأبدو مقنِعة بدور الأم».
لا يخيف العمر نبيلة النابلسي، مهما رسمت سنواته من خطوط على وجهها، وقد أتى المرض ليعمّقها. «هذه تجاعيدي وأنا أحبّها. من قال إن التجاعيد ليست جميلة؟ أفضّل أن أعيش كل مرحلة من مراحل عمري من دون تزييف».


5 تواريخ

1949
الولادة في دمشق

1970
أول بطولة سينمائية في «المخاض» الجزء الأول من ثلاثية «رجال تحت الشمس» للمخرج نبيل المالح

1974
شاركت في فيلم «العار» لوديع يوسف

1983
أول عمل تلفزيوني «دموع الملائكة» لغسان جبري

2010
تستعدّ للعودة إلى التمثيل بعد زوال الوعكة الصحيّة التي ألمّت بها