السينما، برأيه، صوت الذين لا صوت لهم... وخصوصاً عندما تكون مستقلّة، وعندما يصنعها مخرج مثله، عاش تجربته وعرف معاناته. درس في بغداد وموسكو، ثم لجأ إلى لندن، وعاد إلى مدينته بعد سقوط صدّام، محاولاً أن يغرس جذوره مجدداً فيها، لكن سدىً. هنا سجّل الوقائع العاديّة في حياة عائلته الآخذة في التفتّت، تماماً مثل المجتمع العراقي بعد الاحتلال
سعد هادي
حتى الآن يفكّر قاسم عبد في أنصاف الصور المتحركة التي كان يراها من خلف جدار سينما «ريو» الصيفية في حي «باب الشيخ» في بغداد. كانت عائلته تقطن ذلك الحي خلال خمسينيات القرن الماضي، وكان هو يقف مع أطفال آخرين ويراقب تحرك الرؤوس والأيدي ويحاول إكمال ما يحدث. «كانَ ذلك تمريناً فريداً للخيال»، كما يقول، حتى بعدما أصبح بمقدوره أن يدخل إلى دار السينما ويشاهد الأفلام كما هي كاملةً، ظلّت ذكرى تلك الصور الناقصة تسحره. يعود من خلالها إلى بغداد الماضي، المدينة الصغيرة المتحضرة التي لم يكن الريفيون قد اقتحموها بعد.
حرّضته تلك الصور على تكرار تجارب لا نهائية لصنع ماكينة للعرض، انتهت جميعها إلى الفشل، كما حرّضته على القراءة للتعرف إلى أسرار السينما. لكنّ الكتب التي كان يستعيرها، كانت أكبر من قدرته على الإدراك. يتذكر بعضها الآن: «مذكرات مخرج سينمائي» للمخرج الروسي سيرغي أزنشتاين، و«فن السينما» للمنظّر الألماني رودولف آرنهايم، وكتاب آخر عن تقنيات الفوتوغراف جذبه موقتاً نحو التصوير، وعلَّمه حرفيات التحميض والطبع...
كانت تلك، كما يقول، محطّة مهمّة في اتجاه فهمه للسينما، ثم تلتها محطة أخرى حين تعرف إلى المخرج المسرحي حميد محمد جواد. «حدث ذلك مصادفةً حين كنت أفتش عن كتاب معيّن في إحدى المكتبات. سألني جواد: لماذا تبحث عن هذا الكتاب؟ فقلت له إنني أريد أن أعرف كل شيء عن السينما. دعاني إلى غرفته في أحد الفنادق، وكانت جدرانها وزواياها تزدحم بالكتب، حدثني عن أشياء كثيرة وعلمني كيف أخطط لقراءاتي مستقبلاً. قبل أن أخرج، سألته من أنت، فقال فلان وأعمل مدرساً في معهد الفنون الجميلة».
بعد أشهر، حين سيحاول قاسم عبد أن ينتمي إلى المعهد ذاته، سينصحه جواد أن يحفظ خطبة «يوليوس قيصر» في مسرحية شكسبير، ثم سيوبّخه حين يلقي الخطبة أمامه إلقاءً أوتوماتيكياً. هذا ما يصيبه بصدمة عنيفة، تترافق مع رفض عائلته لقراره دراسة الفن. بعدها بأشهر، سيعيد صديقنا محاولته، وسينجح بخطبة «قيصر» ذاتها في اقتحام أسوار المعهد. سيكتشف هناك أن «جواد» كان يحتل مكانة متميزة لدى الطلبة. كانت أفكاره خليطاً من العقلانية والفوضوية في جو عام كان يحفل بالأفكار اليسارية. «كنا ننتمي عاطفياً إلى اليسار، مع عشقنا لفن الغرب الرأسمالي وثقافته، وطموحنا لمواصلة دراستنا فيه».
في المعهد مثَّل قاسم في عدد كبير من المسرحيات من أبرزها: «المسيح يُصلب من جديد» التي أخرجها عوني كرومي... أما في قسم السينما، فقد اجتذبته شخصية «مدير التصوير» التي وجد فيها ما يتلاءم مع قدراته. صوَّر بمبادرة منه أفلام التخرج الأربعة التي نفّذها زملاؤه، كما أخرج فيلماً اسمه: «خطوة» سيكون جواز مروره بعد أشهر في «معهد السينما لعموم الاتحاد السوفياتي» (افغيك VGIK) الذي كان يعدّ من أبرز معاهد الفن السابع في العالم.
اكتشف هناك أنّه لم يكن يعرف شيئاً عن السينما، فقد «كان كل شيء مختلفاً». دامت دراسته أكثر ممّا هو مقرّر لها لأنّه لم يكن يريد أن يعود إلى العراق بعد اشتعال الحرب مع إيران: «كنت أقف كل يوم أمام خارطة كبيرة للعالم وأفكر أين سأذهب، كان ذلك السؤال يرعبني. ثم اخترت لندن، بسبب اللغة قبل كل شيء، لم يكن باستطاعتي أن أعمل في السينما بالطبع. عملت مصوراً في مكتب للدعاية، وفي مهن أخرى، إلى أن صورت فيلمي الأول: «وسط حقول الذرة الغريبة ــــ 1991» عن سبعة فنانين عراقيين يعيشون في إيطاليا بكاميرا 16ملم استعرتها من صديق يعيش في موسكو. أما تكاليف الفيلم الخام والطبع والتحميض فقد دفعها الفنانون الذين ظهروا في الفيلم».
بعد ذلك بزمن طويل (1999)، أخرج قاسم فيلمه «ناجي العلي، فنان ذو رؤيا». كان هذا أثناء تصويره فيلماً لزميلته ميسون الباجه جي، إذ كانت الكاميرا المؤجرة تبقى معه وكان يستغل الأوقات الباقية من أيام التصوير لإنجاز فيلمه. صوَّر لقاءات مع بلند الحيدري وأحمد مطر وزوجة ناجي العلي و4000 رسم أصلي، وحاول من خلال الفيلم أن يجيب إجابة مواربة عن سؤال: لماذا قتل ناجي العلي؟ فيلمه التالي «حاجز سوردا» (2005) جاء في الإطار الفلسطيني أيضاً، وقد استغرق تصويره ثلاث سنوات رغم أنه لا يتجاوز ثلاثين دقيقة. الفيلم عن نقطة تفتيش إسرائيلية على طريق يربط رام الله بـ 50 قرية فلسطينية، وقد تحولت تلك النقطة إلى مسرح يعرض حياة الفلسطينيين المأساوية، ليس في الفيلم تعليق ولا مقابلات ولا موسيقى، الشارع هو الشخصية الأساسية التي تسرد بصرياً ما يجري.
بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 عاد قاسم عبد إلى العراق. خلال الأشهر الأولى أسهم مع ميسون الباجه جي في افتتاح كلية مستقلة لتدريس السينما في بغداد، بإمكانات بسيطة. أقام ثلاث دورات تدريبية تخرّج في كل منها 20 طالباً، كما أنتج 11 فيلماً وثائقياً قصيراً، ثمّ اضطر إلى مغادرة العراق عام 2006 بعد تردّي الحالة الأمنية. لكنّه خلال ذلك كان يجمع المادة الأساسية لفيلمه «حياة ما بعد السقوط» (2008).
يتذكر: «عندما عدت إلى العراق بعد ثلاثين عاماً من الغياب، وجدت ثلاثة أجيال من عائلتي بأعمار ومشارب وأمزجة مختلفة، وكل منها احتمال شخصية رئيسية في أي عمل فني. لم تكن لديّ فكرة واضحة عن إخراج فيلم أو كتابة نص ما... لكنّ الفكرة بدأت بمعزل عنّي وتطوّرت تدريجاً. خلال أربع سنوات رصدتُ تحوّلات العائلة وتحولات المجتمع الذي تعيش فيه، لم يكن لدي سيناريو ولا مخطط للعمل. كنت أجمع المادة فقط لأعيد اكتشاف العائلة التي تركتها وأنا شاب. واتضح لي بعد حين أنني أصور رواية تتضح ملامحها مع تطور الأوضاع في العراق. المفارقة أنّ العائلة التي كانت متماسكة في ظل الحكم الديكتاتوري بدأت بالتفكك بعد الاحتلال. توصلت لاحقاً، وخصوصاً بعد مقتل أخي الأصغر في عملية غامضة، إلى قناعة بأنني لا يمكن أن أضيف شيئاً، فكلّ ما أضيفه لا يعني شيئاً».
بدأ بمونتاج الفيلم منتصف 2007 مع ميسون الباجه جي واستغرق العمل 21 أسبوعاً، واستخرج من الــ 55 ساعة التي تمثّل «المادة الأولية»، فيلماً من جزءين في 155 دقيقة. نال الفيلم جائزة أفضل فيلم في «مهرجان ميونيخ الدولي للأفلام الوثائقية» (2008). وحاز جوائز أخرى وإشادات في مختلف المهرجانات التي عرض فيها، وذلك لأنه، كما يقول مخرجه: «فيلم يتحدث عن المصير الإنساني، ولأنه أيضاً ينتمي إلى السينما المستقلة التي أؤمن بها، والتي تدافع عن الناس الذين لا صوت لهم».


5 تواريخ

1950
الولادة في بغداد

1982
أكمل دراسته في «معهد السينما لعموم الاتحاد السوفياتي» (افغيك)، وسافر إلى لندن حيث يقيم حتى الآن

1999
أخرج فيلم «ناجي العلي، فنان ذو رؤيا»

2004
افتتح في بغداد «كلية السينما والتلفزيون المستقلة» بالتعاون مع ميسون الباجه جي

2008
فاز «حياة ما بعد السقوط» بجائزة أفضل فيلم في «مهرجان ميونيخ الدولي للأفلام الوثائقية»