حيرة الكاتب المعتزل فوق خشبة المنفى

بدأ الكتابة أوائل الستينيات وتعرّف إلى «جماعة كركوك» وسركون بولص وفاضل العزاوي وجليل القيسي. لكنّه اليوم مقتنع بعدم جدوى الكتابة إزاء ما يحدث، وقي قلب الفوضى التي عمّت الساحة الثقافية العراقيّة

سعد هادي
لا يريد ثامر مهدي أن يعلن قطيعته النهائية مع الكتابة، كما أنّ الأسباب التي جعلته يبتعد موقتاً عن مهنته الأساسية معقدة. لقد أدرك بإيجاز عدم جدوى الكتابة إزاء ما يحدث في الواقع وأربكته الفوضى الواضحة في الخارطة الثقافية التي لا تحتمل المشاريع الجادة. مع ذلك، فهو يرى أن خياره لا يعبر عن يأس، فهو مستعد للعودة إلى التدريس حتى وإن حدث ذلك في أكثر الظروف صعوبة، لأنّ التدريس «مهنته الثانية» يتعامل مع أفضل أدوات التغيير: العنصر البشري ويعيد نحت العقول و«هذا ما نحتاج إليه الآن بينما الكتابة في الوضع الراهن هي أشبه بالقفز إلى المجهول» يشير صاحب سيناريو فيلم «الظامئون» الذي يعدّ من أفضل ما أنتجته السينما العراقية.
ربما أسهمت عزلته، في بلد ناء مثل كندا ــــ وهي عزلة أجبر عليها في نهاية التسعينيات ــ في الوصول إلى قناعة كهذه. لكن العزلة من جانب آخر قد تؤدي إلى تصفية حسابات مريحة مع النفس وتحرّض الكاتب على أن يبدأ دائماً من موضع بعيد عن نقطة الصفر. يقول إنّه في الكثير من مواقفه الثقافية، لم يكن منصفاً مع مجايليه وطلابه عندما كان يستخدم معايير رفيعة وصارمة للحكم على أعمالهم. «العناصر الثقافية في بلداننا لا تقل شأناً عن مثيلاتها في البلدان المتقدمة إذا أتيحت لها الفرص التي تمنح هناك».
كان ثامر مهدي قد بدأ الكتابة أوائل الستينيات، ونشر بين 1963و1966 مجموعة قصص في مجلة «العاملون في النفط» التي كان يرأس تحريرها الراحل جبرا إبراهيم جبرا. «جبرا كان معجباً بتلك القصص، وكان النشر في المجلة نوعاً من الامتياز لا يحظى به إلا شعراء وكتّاب كبار أمثال السياب ورشدي العامل».
في تلك السنوات، كان يدرس الفلسفة صباحاً في كلية الآداب، والمسرح مساءً في معهد الفنون الجميلة، وكان يدرس معه في المعهد بعضاً ممن أصبحوا أفضل فناني العراق لاحقاً: قاسم حول ومنير عبد الأمير وطعمة التميمي وفخري العقيدي وأحمد فياض وسواهم، ولكنّه في عام 1964 وبعدما أكمل دراسته للفلسفة وعُيِّن معيداً في كلية الآداب لحصوله على المرتبة الأولى، قرّر أن يترك معهد الفنون من دون أن يتخلى عن ميوله الفنية. آنذاك، كان قد تعرف إلى إبراهيم جلال الذي عاد حينها من أميركا تواً بعد دراسته المسرح. وقد اختاره جلال ليكون مساعداً له حين أخرج مسرحية «كاليغولا» لألبير كامو عام 1965، كما أدار فنياً أول تمثيلية أعدها ثامر مهدي للتلفزيون عن مسرحية لبيرانديللو بعنوان “الفخ” وقد أخرجها خليل شوقي وقامت ببطولتها الراحلة زينب.
أما بعدما أصبح عضواً في فرقة المسرح الفني الحديث، فقد شارك الاثنان أيضاً في تقديم أول مسرحية حديثة في العراق هي «فوانيس» لطه سالم. يتذكر ثامر أنّه بدأ يكتب آنذاك مقالات نقدية عن المسرح واصل نشرها في جريدة «الثورة العربية» البغدادية، كما كتب أيضاً مسرحيته الوحيدة «فائض عن الحاجة» وأخرجها للمسرح العمالي كتجربة أولى وأخيرة. لكنه بعد ذلك بقليل، قرر الابتعاد عن المسرح. وكان قد أصبح مساعداً لمحمد سعيد الصحاف حين كان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون ومديراً بالوكالة لدائرة السينما والمسرح في الأعوام الأولى من السبعينيات.
يقول ثامر إنّه ابتعد بإرادته. فهو من موقع مسؤوليته لم يكن يرغب في منافسة الآخرين، ولم يكن أيضاً يريد كتابة النقد عن تجارب يسهم في تنفيذها أو الإشراف عليها أو إجازتها، «فهل من المعقول أن أنقد نفسي؟». استمر ثامر في منصبه أو مجموعة مناصبه حتى لفّقت له تُهمة سياسية باطلة فأُدخل السجن لسنوات. كانت تجربة السجن مريرة لكنها كانت فرصة لمراجعة الذات، كما كانت علامة سوداء في سجله الأمني والوظيفي بمعايير النظام البعثي السابق.
بعد إطلاق سراحه، عاد ثانية للتدريس، أستاذاً للفلسفة والفن في آن واحد، ولديه حتى الآن ذكريات مثيرة عن الكثير ممن تتلمذوا على يده، يبتسم حين يتذكر أنّ بين الذين كان أستاذاً لهم حين عُيِّن معيداً في منتصف الستينيات: مالك المطلبي وموسى كريدي وسهيل سامي وآخرين كان أغلبهم في مثل سنه أو حتى أكبر منه. يقول: «لقد أضافت إلي تجربة تدريس الفلسفة خصوصاً رسوخاً في الموقف الفكري وصقلت مشاعري وأرهفت إنسانيتي، مثلما حرضتني على العودة دائماً إلى الأصول لفهم حركة التاريخ وتحولات المجتمع».
ورغم تعدد إسهاماته الفنية لم يقترب من التمثيل مطلقاً، التمثيل كما يقول «يرعبني، فلعبة التمثيل هي إلغاء عنصر المراقبة بينما لدي إحساس شديد بالآخرين ولا أستطيع أن أفترض أن الجمهور غير موجود أو الغي الآخر». هو أيضاً لم يكرر تجربته الوحيدة في الإخراج المسرحي رغم أنّه من خلال عمله مديراً فنياً أو مساعداً للإخراج كان يتدخل مراراً في العملية الإخراجية. لقد قُدِّمت إليه عروض كثيرة ليكون مخرجاً، لكنه كان يؤجل الأمر حتى نسيه الجميع. شُغل إلى جانب التدريس أيضاً بكتابة المسلسلات التلفزيونية.
ومن أبرز ما أنجزه مسلسل «حرب البسوس» الذي مثله عدد من النجوم العرب عام 1982، ومسلسل ناظم الغزالي الذي نُفّذ بطريقة رديئة وقد صُدم حين شاهد إحدى حلقاته، إذ لم تكن تنتمي مطلقاً إلى ما كتبه على الورق. عوضته كتابة المسلسلات عن كتابة الرواية التي لم يعد يحلم بكتابتها مثلما كان يفعل حين كان شاباً.
اليوم لم يعد يحلم كثيراًً : «ربما فاتني قطار الكتابة، وحدها الذاكرة هي التي تعمل باستمرار، أتذكر دائماً رموز الجيل الذي ظهرت معه، جيل الستينيات، وخصوصاً جماعة كركوك التي ضمت سركون بولص وفاضل العزاوي وجليل القيسي. لم أتعرف إلى هؤلاء حين كانت عائلتي تسكن في تلك المدينة الغنية ذات التعدد الديني والإثني بل توثقت علاقاتي بهم في بغداد، كانوا أشبه بالغرباء على الوسط الثقافي». ويتابع بشيء من الحنين: «بالطبع كان سركون أبرزهم، ويتميز عنّا بقراءته للنصوص الإنكليزية مباشرة في حين كنا نقرأ ترجمات رديئة ومبتسرة للنصوص ذاته، كنا ننشر كتاباتنا في جريدة مغمورة اسمها «الأنباء الجديدة» على ما أذكر، في أحد أعداد الجريدة نشر سركون مسرحية سريالية بعنوان «جزيرة الأسنان» وأهداني إيّاها، فيما كتبت أنا مقالاً عن مسرحية «جريمة قتل في الكاتدرائية» فاستغل محرر الجريدة عنوان المقال ونشره مانشيتاً رئيسياً على الصفحة الأولى، ما أحدث ضجة كبرى في بغداد إلى أن اتضحت حقيقة الأمر»....


5 تواريخ

1942
الولادة في بغداد

1964
تخرج من كلية الآداب في بغداد/ قسم الفلسفة، وكان الأول في دورته فعيّن معيداً في الكلية.

1971
كتب سيناريو فيلم «الظامئون» الذي أخرجه محمد شكري جميل.

1990
صدر كتابه «من الفلسفة إلى الأسطورة» عن «دار الشؤون الثقافية» في بغداد. وبعدها بستّ سنوات حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بغداد عن رسالته «منطق الحكم الجمالي».

2008
العزلة العراقيّة مستمرّة، ومعها الانقطاع عن الكتابة