يُخيّل لزوّار بلدة المتين المزيّنة بغابات الصّنوبر والينابيع، أن أبناء هذه البلدة العابقة بالتاريخ يعيشون حياة هادئة وصافية كهواء بلدتهم. غير أن المتين، التي يعني اسمها تصغير «المتن»، تمثّل نموذجاً مصغّراً عن منطقة المتن وما تعانيه من «صراعات بلديّة» و«حرتقات سياسية» تولّد ضعفاً إنمائياً وسوء تخطيط
اليسار كرم
تبدأ المشاكل بقضية «الخراج» وهو المحيط الجغرافي التّابع عقارياً للمتين. ففيما تشكو بلدات المتن الشمالي من ضيق هذه المساحة، تتمتّع المتين بخراج يمتدّ حتى بسكنتا وصولاً إلى سرعين في بعلبك. إلا أن خلافاً قديماً نشب عندما تقدّمت إحدى الشركات الخاصة المسمّاة «التلة البيضاء» عام 1977، على أثر شرائها مساحات كبيرة من الأراضي الواقعة في محلة الزّعرور، من بلدة المتين، بطلب إلحاق الزّعرور بالنّطاق البلدي لبلدة بتغرين. وعلى الرّغم من أن الشركة الخاصة لا تملك الصّفة التي تسمح لها بالتّقدّم بطلب كهذا، أحال القائمقام في المتن، في اليوم نفسه، الطّلب إلى المكتب الفنّي في المتن لإجراء الكشف وبيان الرّأي، وفي أقل من 48 ساعة أبدى هذا الأخير عدم ممانعته. ثم أصدر وزير الداخلية آنذاك، صلاح سلمان، قراراً قضى بسلخ محلّة الزعرور وجوارها من النّطاق البلدي لبلدية المتين ومشيخا وإلحاقها ببلدية بتغرين. واليوم، يصرّ أبناء المتين على استعادة هذه الأراضي المتمثّلة بنحو 10 ملايين متر مربّع من بتغرين، مشدّدين على أنها أراضٍ سلختها الشّركة، التي يملك النّائب ميشال المر 60% وشقيقه غبريال المر 40 % من أسهمها، لأهداف سياسية ومالية أهمّها مشروع «الزّعرور» للتزلّج. ويرى معنيّون أن استفادة بلدية المتين من هذه الأرض كان سيدرّ عليها عائدات وافرة.
أُعيد إحياء هذا الملف عندما تضاربت المعلومات أمام المديرية العامة للتنظيم المدني، وحصلت ازدواجية في مقترحات مجلسي بلديتي المتين وبتغرين بشأن المنطقة الارتفاقيّة المقترحة من كل منهما للمنطقة المتنازع عليها. فضلاً عن أن الخريطة المرسلة من بلدية بتغرين إلى التنظيم المدني تشمل مساحات أخرى لا يشملها القرار الصّادر عام 1978، وما زالت تتولّى إدارتها بلدة المتين.
دفع القرار الإعدادي الصادر عن مجلس شورى الدّولة عام 2009 بهذه القضيّة إلى الواجهة، بعدما اعتبر المراجعات التي تقدّمت بها بلدية المتين واردة ضمن المهلة القانونية وقضى بوضع تقرير جديد في المراجعة. لكنّ مشاكل البلدة لا تقف هنا.
فالمتين التي كانت في ما مضى عاصمة المتن، ومركزاً للأمراء اللّمعيين (آل أبي اللمع) ومحطةً أساسية على طريق القوافل التي تربط المدن السّاحلية بالبقاع، تنتظر اليوم استكمال بناء «أوتوستراد المتن السّريع» المعروف بأوتوستراد بعبدات، وهو يبدأ من منطقة الدّورة مروراً بنقطة نهر الموت ويصل إلى بعبدات. هذا الأوتوستراد الذي يجب أن يصل إلى زحلة مروراً بالمتين، وفق المرسوم الموقّع لإنشائه، كان ليمثّل شرياناً حيويّاً يربط مرفأ بيروت بطريق زحلة ويسهّل خلق خط «ترانزيت» دولي إلى سوريا وتركيا، وبالتالي يحرّك العجلة الاقتصادية. وعلمت «الأخبار» من مصدر في بلدية المتين أن مبلغاً مالياً كان قد صُرف من أجل إتمام بناء الأوتوستراد، ولكنه حُوّل لبناء أوتوستراد آخر يصل بتغرين بالزّعرور وصنّين، مع العلم أن التخطيط السّليم الذي يفترض تحديد الأولويات يقضي باستكمال البناء لأن عشرة آلاف سيارة على الأقل تمرّ يومياً على هذا الخط. يضيف المصدر الذي رفض الكشف عن هويّته، أن سبب تجميد العمل بالمرسوم الموقع لا يتخطى المصالح الضيقة للنافذين إلا إذا أرادوا «أن يشتروا الناس ويمنّنوا عليهم بخدمات هي أساساً من حقوقهم المشروعة».
ليس بعيداً عن الأوتوستراد، ومع حلول موسم الأمطار الذي لم ينتهِ بعد، واجهت بلدية المتين ومشيخا مشكلةً في تصريف مياه الأمطار في مجاري الصرف الصحي، شأنها شأن بلدات كثيرة في المتن الشمالي. فالمجاري والحفر الصحية «قديمة جداً ويلزمها إعادة تأهيل كي تستوعب كميات الأمطار المنهمرة في كل فصل»، على حدّ تعبير المعنيّين في البلدية. ويطالب رئيس البلدية، زهير بو نادر، باستحداث شبكات جديدة وبإنشاء محطة تكرير للمياه في كل قرية. يُشار هنا إلى أن مجلس الإنماء والإعمار كان قد اقترح إنشاء محطة تكرير وحيدة في برج حمود ووضع لها مخططاً منذ عام 1982، بيد أن المشروع لم يُنفّذ نظراً إلى الاعتراضات الكثيرة التي قامت بوجهه. ويرى بو نادر أنه «من الأجدى إنشاء محطة تكرير لكلّ قرية، فهذا يوفّر كلفة استجرار المياه من أماكن بعيدة وتنفيذه أسهل تقنيّاً وأثره البيئي أقل ضرراً».
صُرف مخصصات أوتوستراد المتين لبناء أوتوستراد آخر يصل بتغرين بالزّعرور وصنّين
وبالحديث عن نعمة الشتاء التي تحوّلت نقمة في نظر المتينيّين، ترافق فصل العودة إلى المدارس مع خوف الأولاد وأهلهم من شبح البرد الذي يتسلل إلى أجسادهم، مستفيداً من غياب التدفئة في المبنى الكبير لمدرسة المتين الرسمية. فارتفاع أسعار المحروقات أدى إلى صعوبة تأمين مادة المازوت لتدفئة الصفوف التي تحتضن 35 تلميذاً من أبناء البلدة. وكشفت مصادر مطلعة في الإدارة أن كلفة تأمين المازوت هذا العام تخطت الـ1500 دولار، يُضاف إليها مبلغ 2000 دولار لأعمال الصيانة. وأفادت مديرة مدرسة المتين الرسمية، نجاح البنّى، بأن أحد أبناء المتين تبرّع بتأمين المحروقات. أما رئيسة لجنة الأهل في المدرسة، «أم مجد»، فأكّدت أنّ اللجنة تتابع مسألة التدفئة والتجهيز «لأنّ للمدرسة الجبليّة متطلبات خاصة».
من ناحية أخرى، يكلّف المبنى الكبير المُستأجر من راهبات القلبين الأقدسين اثنين وأربعين مليوناً وثلاثمئة وخمسة وسبعين ألف ليرة لبنانية سنوياً، تدفعها وزارة التربية الوطنية بدل إيجار إلى جانب مبالغ إضافية للصيانة والتجهيز، فيما البلدية كانت قد قدّمت قطعة أرض لبناء مدرسة توفّر على الدولة كلفة الإيجار. ولكن أعمال البناء توقفت خلال سنوات الحرب وتحوّل المكان إلى زريبة للأبقار.
ويسعى أبناء المتين، وعلى رأسهم رئيس «جمعية سيدروس للإنماء»، وليد أبو سليمان، إلى تحفيز المعنيين لاستكمال أعمال البناء. ويقول: «لا يجوز أن تتكلّف الدولة اللبنانية مبالغ تُقدّر بالملايين للحفاظ على مبنى ضخم لا يضمّ سوى 35 تلميذاً فقط، فيما استحصلت عام 2007 على رخصة من بلدية المتين ومشيخا لإجراء التعديلات اللازمة على المبنى القديم وأُعفيت من دفع الرسوم إضافة إلى أن قراراً صدر في 13 كانون الثاني 2009 يقضي بإنشاء مدرسة رسمية جديدة ولم يُنفّذ حتى الساعة».
ويسأل أبو سليمان عن سبب التقصير مرجّحاً أن يكون سياسيّاً متعلّقاً بمصالح فئوية أو مجرد إهمال إداري. يضيف: «التقصير ينسحب على المدرسة المهنية التي كان من المفترض أن يبدأ التدريس فيها خلال عام 2009ــــ2010، لكن التجاذبات السياسية بين أصحاب النفوذ في البلدة حالت دون تعيين مدير للبدء بتجهيز الصفوف ووضع برنامج التدريس».
ويُشاع بين المتينيّين أنّ الأحزاب النافذة في البلدة تتنافس من أجل فرض مدير «من جماعتها» فيما يُشيع البعض أنّ تسمية المدرسة المهنيّة على اسم رئيس الرابطة المارونية الرّاحل، شاكر أبو سليمان، الذي كان له اليد الطولى في إنشائها، قد يدفع عائلة أبو سليمان إلى التّدخل لحلحلة الأمور.


قبضوا مرّتين

دُمّرت بلدة المتين تماماً خلال سنوات الحرب اللبنانية، ولم يسلم فيها أي بيت. هي البلدة الأولى في المتن، والثانية في لبنان بعد الدّامور، التي شهدت تهجير أبنائها المسيحيين والدّروز. وعلى الرّغم من أن المتينيّين أعادوا بناء بيوتهم، لم يأخذ أيّ منهم حقوقه من صندوق المهجّرين إلا عند تحريك الملف منتصف عام 2008. يروي رئيس بلدية المتين ومشيخا كيف سعى، تحت ضغط من الأهالي، لإنجاز الملفات على الرّغم من أن الأمر ليس من ضمن مسؤوليّاته: «قابلت وزير المهجرين آنذاك، نعمة طعمة، ورئيس صندوق المهجرين فادي عرموني، وتمكّنتُ من إنجاز 550 ملفاً من أصل 900».
ويكشف أحد أبناء البلدة أنّه قدّم ملفه لوزارة المهجّرين عام 1994 ليعيد إعمار بيته الذي يكلّف قرابة 800 ألف دولار فقبض مبلغ 650 دولاراً فقط في عام 2008. وكان الوزير طعمة قد كشف في حينها عن مساع لرفع المبالغ التي تقاضاها المهجّرون، يتبيّن اليوم أنها لم تنجح. ويتهامس المتينيّون أنّ البعض قبضوا تعويضاتهم مرّتين فيما لم يقبض آخرون أبداً.