النساء في لبنان يعشن كمواطن مُستعمَل (بفتح الميم) لا مُستعْمِِِِل (بكسرها). هنا محاولة لرسم نماذج للمواطنة اللبنانيّة التي هي في الواقع مواطنة تحت الصفر، تساهم في بعض الأحيان في تهميش نفسها، وكأنّ نظام القمع الذي تتعرّض له غير كافٍ وحده لتهميشها
سارة أبو غزال
توجّهت العديد من الحملات الانتخابية العام الفائت إلى النساء، مستهدفة أصواتهنّ. وقد دلّت هذه الخطوة على وعي منظّمي الحملات وأن للنساء دوراً في التصويت، وألغيت فرضيّة أن النساء يدلين بأصواتهنّ كما تملي عليهنّ رغبة العائلة/ الذكر. غير أن الحملات الانتخابية هذه سهت عن أمر بالغ الأهمية يتعلق بالهوية الاجتماعية التي تحملها المرأة اللبنانية، والتي جعلت أمراً كاستهداف المرأة الناخبة يبدو كأنه دعاية لسلعة جديدة. فالنساء في لبنان يعشن كمواطن مُستعمَل لا مُستعْمِِِِل.
في قراءة جديدة لواقع الحركات النسائية، تطرح الباحثة إصلاح جاد واقع تمأسس الحركة النسائية وتحويلها إلى منظمات ومؤسسات اجتماعية لا مكان لها في الشارع السياسي، وهو أمر يعبّر عن قلق لدى العديد من النسويات في العالم العربي. وفي سياق البحث في «استعمال النساء وقضاياهنّ»، نرى أنّ النساء في لبنان يتاجَر بهنّ لمصلحة الوطن من دون إعطائهنّ حقاً أو امتيازاً في المقابل. وكأن لبنان يخلق نموذجاً جديداً لـ«صورية» المفاهيم، وخصوصاً في ما يتعلق بأوضاع النساء وقيمتهنّ الإنسانية والاجتماعية.

مواطنة مدرّة لأطفال لبنانيّين

نساء لبنان يعشن قوانين الطائفة في الأحوال الشخصية والانتخاب وإلى ما هنالك من أمور. وقد يختلفن بعضهنّ عن بعض في امتيازاتهنّ في موضوع الطلاق والإرث، لكنهن يتشاركن المصير ذاته في عدم امتلاك الحق في منح الجنسية لأبنائهنّ وبناتهنّ. والحق بمنح الجنسية مرتبط حصراً بالسياسة وبرعب الإخلال بالتوازن الطائفي الذي لا ينفكّ يقف بالمرصاد لأي اقتراح يسهم في إلغاء الطائفية السياسية ويخفف من احتقانها. غير أنه يحاكي أيضاً أمراً بالغ العنصرية. فإذا افترضنا أن للنساء الحق في اختيار شريك حياتهن، يجب أن نفترض أن للنساء الحق في اختيار دين هذا الشريك وطائفته. وهناك العديد من الوسائل التي يصبح الزواج المختلط من خلالها قانونياً. غير أن زواج اللبنانية من شخص «غير لبناني» يجعلها مصابة بالعقم أمام الدولة اللبنانية. والأولاد الذين أنجبتهم يصبحون ضيوفاً من جنسية أخرى. وتعتمد هذه الضيافة على نوع الجنسية التي يحملها الطفل/ة، وطبعاً الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية المحيطة به/ا. وتتحول المرأة اللبنانية من خلال هذا القانون إلى مواطنة منتجة لـ«العِرق اللبناني» على اختلاف طوائفه، شرط ارتباطها بلبنانيّ الجنسية، وإلا يسقط حقها في المساهمة في تكاثر اللبنانيين. ففي جعل أمومة النساء سياسة قومية، ينفي القانون اللبناني عن النساء حرية التصرف بأجسادهنّ، ويفرض شروطاً على أهلية النساء اللبنانيات للتكاثر.

مواطنة نائبة عند الوفاة أو الضرورة

لا يخفى خجل اللبنانيات المهتمات بالشأن العام بالسيدات المشاركات في الحياة البرلمانية في لبنان، وخصوصاً أن موضوع القرابة العائلية يبقى السبب الأساسي في احتلال السيدات مقاعد في البرلمان. ومن المؤكد أنه حين نرى صورة للمجلس النيابي تبدو كأنها «بوست كارد» عن الديموقراطية، صورة تودّ الحكومات اللبنانية إرسالها إلى العالم الباحث عن الكوتا، وكأنها الدليل على وجود الحرية والتقدم للنساء. ورغم أن موضوع الكوتا النسائية يبقى أمراً شديد التداول بين النساء، نجح النظام في خداع المواطنات، من خلال تأكيد واقع المشاركة السياسية للنساء في الحكم، وفي إمرار رسالة خفية تفيد بضرورة الخضوع والتشرّب التام للقيم العائلية والسياسات الطائفية. أما النساء الراغبات في احتلال مقعد نيابي، فتفيد الرسالة في البحث عن أقرب نائب أو وزير عازب والارتباط به، على أمل موته في القريب العاجل أو الانتظار إلى موت وريث العائلة الأخير واحتلال موقعه. والسيدات المشاركات في الحكم لم يبدين أي حساسية تجاه العمل على تغيير الأوضاع القانونية والحقوقية للنساء المواطنات.

حريم الوطن

يختصر الفيديو الموجود على موقع وزارة السياحة اللبنانية مشهداً يصعب على النساء في لبنان تأويله بدقة. يمرّ مشهد عابر لفتيات يتراقصن في ملهى ليلي. المشهد يحاكي الكثير من التناقض. فلبنان يعرّف نفسه للزائر على أنه بلد متحرر وقابل لاستيعاب حاجات الزوار، ويسوّق نفسه في موقع وزارة السياحة على أنه عصريّ محبّ للسهر. غير أن قوانينه تتناقض مع يوميات بعض من فتياته. فلنفترض أن المواطنة فلانة تعرضت للعنف المنزلي بسبب ارتيادها ملهى ليلياً، فكيف يتدخل لبنان لحماية مواطنته من العنف المنزلي في ظلّ رفض المجلس النيابي بتّ القانون المقترح للحماية من العنف الأسري؟ علاقة لبنان بمواطنته تبدو موسمية، يحبّذها متحررة ومتشبهة بالأوروبيات صيفاً، وشرقية قلقة من جرائم الشرف شتاءً. كيف يمكن بلداً الترويج لتحرّر مجموعة من النساء يعشن أسلوب حياة معيّن، وفي الوقت نفسه يعطي أحكاماً مخفّفة لمرتكبي جرائم الشرف؟

المرئيّات الخفيّات

من الصعب تحديد منبع العنصرية التي تسبب مقتل العديد من العاملات الأجنبيات. لا شك في أن احتقار الطبقة العاملة أساسي في هوية المجتمع اللبناني، ونستطيع العودة إلى انطلاقة ثورة الأرز وقراءة مجمل الشعارات التي رفعت، والتي احتقرت بمعظمها كل ما هو غريب. من الصعب على أي هوية أن لا تنقلب إلى هوية عنصرية إذا تمحورت ركائزها على احتقار كل ما هو غريب، بدلاً من تعداد إنجازاتها أو مكامن قوتها. وللأسف، تسهم النساء في إعادة إنتاج المواقف العنصرية هذه ضد كل ما هو غير لبناني من خلال استهلاك ثقافة «المدام» التي تسمح بأن تضطهد امرأة أخرى في عقر دارها. على «المدام» اللبنانية الانتباه إلى أن «العاملات الأجنبيات» بديلات منها في القيام بالدور التقليدي الذي لا يزال متوقعاً منها، وأن تفكر بأن ثقافة الكراهية التي تجيز لها استعباد العاملات، مستمدّة من النفور من الصورة النمطية التي كوّنتها المرأة اللبنانية عن نفسها. على النساء اللبنانيات إعادة النظر في الجرائم التي يرتكبنها، والقوة التي يستعملنها، والتي هي في غير موضعها. فالقوة هذه لو استعملت لتغيير النساء اللبنانيات لأوضاعهن القانونية والاجتماعية، لكانت المنفعة أكبر وأكثر أخلاقية من مشهد عاملات يرمين أنفسهنّ من الشرفات هرباً من الاستعباد.


الدولة والأهل شريكان



سفيان الشورابي
خلال السنوات الخمس الماضية، تطوّرت حقوق النساء في 15 بلداً من أصل 18 دولة عربية، حسب التقرير الأخير الذي نشرته منظمة «فريدوم هاوس» غير الحكومية. التونسيات جئن على رأس أكثرهن تمتعاً بحقوقهن، تليهن نساء المغرب والجزائر ثم لبنان، بينما تتموقع اليمن في أسفل التصنيف. المناضلون ــــ نساءً ورجالاً ــــ من أجل حقوق النساء سيعتبرون ما تحقق انتصاراً. ولكن ماذا عن حقيقة الواقع؟
الأنباء الآتية من مصر أخيراً تشكك في حقيقة أن حقوق المرأة في عالمنا العربي تتقدم إيجابياً. فرفض تعيين قاضية في إدارة مجلس الدولة بسبب جنسها يثير صدمة مضاعفة لأن جبهة الرافضين لم تكن آتية من جيوب رجال الدين هذه المرة فحسب، بل كانت صادرة أيضاً من أعضاء الجمعية العامة لنادي القضاة، أي جزء من صفوة المجتمع المصري. البعض منهم نبش في النص القرآني وتأويلاته لتبرير موقفه، والآخر استند إلى وجوب احترام درجة وعي الشعب الذي لا يتقبل فكرة تولّي امرأة حل النزاعات والخلافات. شيخ أزهري قال في سياق هذا الجدل، خلال ندوة عقدت بنقابة الصحافيين المصريين، إن المرأة لا تستطيع أن تتولى منصب رئاسة الدولة، متسائلاً: «كيف تستطيع أن تحكم وتأخذ قرارات بالحرب إذا استدعى الأمر؟!».
تتوالى الأنباء التي لا تبشر بخير: عشرات الآلاف من الرجال طلقوا زوجاتهم بسبب إنجابهن البنت دون الولد... موضة تزويج الفتيات القاصرات تجتاح البلدان الخليجية... تمييز سلبي في أماكن الدراسة والعمل وفي الحق السياسي لدى جل الدول العربية... تشريعات وقوانين منافية لحقوق النساء... عنف متصاعد ضد المرأة بسبب جنسها... الخ.
المرأة العربية في عيدها العالمي لا تزال تلهث من أجل التمتع بحقوقها الأساسية البديهية. ورغم الجمعيات النسوية التي تتناسل هنا وهناك، فإنّ جداراً صينياً عظيماً يحول دون أن تكون لأنشطتها جدوى كبيرة. ذلك أن الاستبداد الأبوي يجد طريقه بسهولة في سلوكيات الأنظمة القائمة. الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات في تونس، مثلاً، تضم بضع عشرات من نساء مثقفات يجهدن أنفسهن من أجل نشر ثقافة حقوق المرأة، لكنّها تتعرض لأنواع من المضايقات والمحاصرة، ما أنزل الله بها من سلطان. ميليشيات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في السعودية تجد متعة خارقة في رصد شعرة قد تخرج من تحت طيات حجاب امرأة وجلدها. برلماني كويتي يطالب حكومته بفرض عدم مشاركة المرأة في الأنشطة الرياضية، الخ.
تتشارك إذاً في القمع الدولة التي تملك آليات القهر القانوني ومجموعات أهلية تتبنى أفكاراً مناهضة للمرأة. وفي انتظار عيد أفضل للمرأة العربية ليس لدينا سوى الكتابة من أجلهن. فـ«الكتابة أخطر من القتل»، على حد تعبير نوال السعداوي.