الميناء ــ نسيم عرابيإن كان أهل الجرود يحذرون من شهر آذار مردّدين «خلّي حطباتك الكبار لآذار»، فإن البحرية على الساحل لا يثقون بدروهم بهذا الشهر، ويرددون عند ذكره «في آذار البحر غدّار». فالطقس الهادئ الذي مرّ على لبنان في الأيام القليلة الماضية، ما لبث أن تحوّل عاصفاً نهاية الأسبوع، ما مثّل تهديداً مباشراً لصيّادي الأسماك الذين خاطروا بأرواحهم وخرجوا إلى عرض البحر باحثين عن الرزق، فيما حُرم آخرون كفاف يومهم.
يروي الصياد واكيم زيتونة لـ«الأخبار» أنه في أيام الشتاء والعواصف يبدأ بتفقّد المراكب الراسية في المرفأ، فيُمتّن الرباط من طرفي المركب، كما تبدأ عملية تفريغه من المياه عبر مضخات يدوية إذا ما كانت قد أمطرت الليلة السابقة. «المراكب هي مورد رزقنا الوحيد، لذلك نراقبها لمدة ساعتين أو ثلاث صباحاً، ولو تحت الشتاء ورياح النو التي قد تصل سرعتها إلى 120 كلم في الساعة، لنعود ونتفقّدها بعد الظهر». اليوم العاصف هو يوم «عطلة قسرية» كما يصفه زيتونة.
إلا أن لكل قاعدة استثناء. فما الذي يدفع الصيادين إلى الشذوذ عن التقليد والمخاطرة؟ «أحياناً يرصد البحرية بؤرةً كثيفة بشتى أنواع السمك، فيمدّون الشباك ويعودون في اليوم التالي، بغض النظر عن حال الطقس، لأنهم ذاهبون وهم على يقين بأن ثروة تنتظرهم في عرض البحر الهائج، علماً بأن ارتفاع الأمواج قد يصل إلى 4 أمتار»، يقول زيتونة ويضيف ممازحاً «نحنا مجانين!».
يروي الصياد الميناوي حادثةً واجهتهم أخيراً، ليثبت لنا أن عمل الصيادين يتأثر بالعوامل كلها ولا يعرف الاستقرار! فمنذ أيام عدّة، خرج وزملاءه في جولتهم المعتادة على الأقفاص التي كانوا قد جهّزوها في الليلة السابقة. بدأ المشوار في طقس ربيعي هادئ، لكنه سرعان ما تحوّل خلال أقل من دقائق إلى عاصف، وهذه الظاهرة تعرف بـ«ردات الربيع»، إذ تهبّ رياح شديدة في عرض البحر لمدة تراوح بين ربع الساعة ونصف الساعة، لكنّها كفيلة بأن تدمر المراكب إذا لم يتدارك البحرية الوضع ويعودوا بأسرع وقت. «وليزداد الطين بلة، لم نعثر على سمكة واحدة داخل القفص، والسبب إحساس الأسماك بالعاصفة وانكفاؤها إلى الكهوف والصخور في قعر البحر! لكنّ الحظ حالفنا بسمكة راي لاسع (السمكة التي لسعت صائد التماسيح الشهير ستيف إيروين وتعرف بالعامية بـ«وطواط البحر»)، التي يرتفع سعرها في موسم الصيام، ويُقبل عليها أهالي زغرتا خصوصاً لاستعمالها في كبة السمك»!
إلياس حداد، زميل زيتونة، يشرح لـ«الأخبار» مشاكل الصيادين في فصل الشتاء، فيضيف إلى ما قاله زيتونة: «العوامل الاجتماعية» في عالم الأسماك، «إذ يتزامن فصل الشتاء مع موسم التزاوج ووضع البيض لدى معظم الأنواع، ما يدفع السمك إلى الاختباء». يتحسّر حداد على وضع الصيادين عموماً وغياب نقابة الصيادين عن همومهم، «فالنقابات في أوروبا تمنع الصيادين من الخروج إلى الصيد في فصل الشتاء وتوفّر لهم مدخولهم شهرياً، بالإضافة إلى توفير كل حاجات الصياد من ضمان صحي وتعويض عن الخسائر»، يقول حداد، ويؤكد خاتماً «كذلك هي حال نقابات الصيادين في المغرب وتونس والجزائر، كي لا يقول أحد إننا لا نستطيع مقارنة وضعنا بوضع أوروبا!».
«البحر غضبان ما بيضحكش، أصل الحكاية ما تضحكش»، لعلّ الفنان المصري الراحل الشيخ إمام لم يقصد صيّادي الميناء تحديداً عندما غنّى هذه الأغنية، لكنها بالطبع على لسان كل صياد يقف على الشاطئ متأمّلاً الأفق، لعلّه يبشره بعوامل تسمح له بالخروج إلى العمل وكسب الرزق!


في غياب النقابة

مشاكل نقابة الصيّادين هي وجه من أوجه الأزمة النّقابية عموماً في بلد نخرت الطائفية والمحسوبيات كلّ مؤسّساته. «نقابتنا مرتهنة سياسياً، وهي أبعد ما تكون عن مصالح الصّيادين وهمومهم»، يقول إلياس حداد ويضيف أن «النّقيب وأمين السّر لا يدعوان لجمعيات عامّة، ولا نسمع أخبار هذه النّقابة إلا عبر اللافتات التي تملأ الشوارع بين مناسبة سياسية وأخرى، لافتات تمدح زعيماً وتجلّ آخر، والصيادون آخر من يطالَب بحقوقهم». ويشير حداد الذي أتمّ عامه الرابع والعشرين في مجال الصيد إلى أن الأموال التي تدفع «ثمناً لهذه اللافتات وتلك التي تدفع لتوفير الباصات لنقل البعض من المرتزقة إلى الاحتفالات السياسية، بإمكانها أن تعيل عائلات الصيادين في الظروف الصعبة التي يمرون بها!».