قد تصل إلى بلد مجاور للبنان قبل أن تصل إلى مدينة بعلبك إذا كنت متوجهاً إليها من بيروت. القصة ليست مزحة، أو لنقل إن فيها بعض المبالغة. لكن تذاكي بعض سائقي الفانات العمومية على الركاب، واستخفافهم بمدى رضى هؤلاء كزبائن، لكونهم زبائن «مرقة طريق»، يحوّل خط السير المستقيم إلى مجموعة من الدوائر والمتاهات تدخل فيها رغماً عنك، إضافةً إلى عدد من «الإسكالات» على طريقة أي شركة طيران
بعلبك ــ عبادة كسر
يبقى صوت فيروز المتسلل الوحيد إلى ركاب الفان مخترقاً ضجيج الأصوات التي تتصارع في ما بينها ليطغى الأقوى على الأضعف. الركاب يشترطون على السائق أنهم يريدون الوصول إلى بعلبك، السائق يعدهم بذلك، أما مساعده، فينادي المارة «بعلبك، اللبوة، الهرمل»، يختنق محرّك الفان في «الطلعة»، فيتفنّن السائق «بتقليعة غير شكل»، يضحك السائق لإطراءات هطلت عليه من مساعده.
يعم الهدوء مجدداً ويعود صوت فيروز كالخيمة فوق رؤوس الركاب ما خلا هدير المحرك الرتيب في طريق الصعود. راكب يدخن سيجارة، وآخر يقرأ، وواحدة تتمتم كلمات الأغنية. فجأةً ينعطف الفان يميناً ويضغط السائق على الفرامل بقوة حتى تكاد عجلات الفان تشق الزفت، فيما صاح به مساعده «وقّف وقّف، راكب»، ثم يفتح النافذة ويسأل الواقف على حافة الطريق «لوين»؟ يجيب هذا الأخير «زحلة المنارة؟» فيدعوه السائق إلى الصعود. تنطلق الرحلة مجدداً، بسرعة كان السائق يقود الفان وعينه على المرآة الجانيبة، يهزأ بمن يراه في المرآة خلفه: «مفكر انو رح خليه يسبقني». يعتدل بجلسته، ويقود الفان بسرعة جنونية متخطياً كل من كان أمامه. يشجّعه مساعده: «ما تخليه يسبقك بيحمل الركاب عن الطريق». «لعيونك»، يأتيه الجواب. يعمّ هدوء ممزوج بالحذر مجدداً، فالركاب متخوفون من أن يكونوا قد ركبوا فان «رحلة الموت» بدل «رحلة إلى بعلبك». يعلو صوت السيدة الستينية من خلف السائق، «الله يرضى عليك يا ابني، معي صمام بالقلب مسكر دخيلك ما بقى تسوق بهالسرعة»، ينظر السائق في المرآة أمامه ويقول للسيدة: «انت اللي حكيتي، ما تخافي ما بيصير الا اللي مقدرو الله». عاد الهدوء حتى ضهر البيدر، وهناك، على الطريق الدولية، اتسعت الطريق للفانات وبدأ التحدي بينهم. دخلوا سباقاً كانت يحصد أعصاب الركاب المتماوجين قسراً مع كل التفافة أو توقف مفاجئ. التذمر بدا واضحاً على وجوه الركاب. تعود السيدة لتذكّر السائق بالملاحظة نفسها. يتجرأ آخر فيهدد السائق بأنه سينزل من الفان إذا ما استمرت هذه السرعة. بعصبية وقلة أدب يجيبه السائق: «أنا هيك بسوق، اللي مش عاجبو ينزل». يضطر الركاب إلى الخضوع للأمر الواقع فهم على طريق ضهر البيدر، حيث درجات الحرارة المتدنية والثلج، ولا مجال لانتظار فان آخر في غياب كامل لأي وسيلة نقل عامة أخرى. يتخطى الفان حاجز قوى الأمن الداخلي فيتنفّس السائق الصعداء، ويتحرر من حزام الأمان الذي «كان عم يخنقني» في بيروت. ينعطف مجدداً إلى اليمين، شاب على الطريق، يسأله السائق: «لوين واصل» يجيبه: «لشتورة» ينظر السائق إلى الخلف، ويطلب من الزائر الجديد الصعود والجلوس بجانب أحدهم على الكرسي نفسه، طالباً من الأخير: «معليش تحّمل حينزل بعد شوي»! حشر الركاب فوق بعضهم بعضاً كان آخر شيء يتوقعه هؤلاء. «هنا ساحة شتورا»، يشير السائق إليها، وبكل هدوء يركن الفان وينزل منه ويركض باتجاه فان آخر، يتحدث مع سائقه ويتبادل معه النقود ويعود الى عربته طالباً من الجميع الترجل والصعود إلى ذلك الفان! يتأفف الركاب ويقول أحدهم: «شو قصتك نحنا شارطناك بدنا نوصل على بعلبك!»، بضحكة صفراوية ينظر إليه السائق ويشرح: «معليش ما في فرق صاحبي حيوصلكن ع بعلبك بدي لحّق نقلة ثانية عبيروت»، يضيف: «ادفعوا له، أنا تحاسبت معه». كان الجميع قد صعد إلى الفان الآخر باستثناء هذا الرجل وزوجته التي تحمل ابنها الرضيع وراكبين آخرين لم يتّسع الفان الجديد لهما. اصطفوا على الرصيف ينتظرون فاناً آخر، والشتائم تنهال على الفان ومنهم من حرّم «ركوب الفانات»، ومنهم من رأى في ذلك إهانة للناس، ومنهم من حمّل المسؤولية للدولة لأنها لم تجد بديلاً في النقل العام. إشارات ضوئية كانت تقترب، والأم الخائفة من البرد على رضيعها كانت تغمر وجهه بغطاء من الصوف. أتى الفرج: الفان فارغ ودافئ. صعد الجميع بعدما أكد لهم السائق أنه متوجه إلى بعلبك عبر الطريق الشرقي، انتهى «الإسكال» وبدأت الرحلة الجديدة بالسلوك نفسه: هكذا انتظروا جميعاً في ساحة المنارة في زحلة حتى يتوافر عدد إضافي من الركاب، ثم انطلقت الرحلة باتجاه بعلبك. وعند حاجز أبلح للجيش اللبناني التفّ الفان إلى اليسار، نحو قرى غربي بعلبك، مبدّداً طمأنينة الركاب. ارتفعت الأصوات معترضة: «قلنالك بدنا نروح عالشرقي، تأخرنا بدنا نوصل عبيوتنا، نزّلني»: يطلب شاب غاضب. يجيبه السائق: «ما هي ذاتها حتوصل ع بعلبك بس بتفرق 5 دقايق». يسكت الشاب على مضض.
أخيراً، مدخل مدينة بعلبك. ثم المشهد عينه الذي عاشه بعض ركاب الفان: ينظر السائق إلى الخلف قائلاً: «اللي واصل عالهرمل يبقى والباقيين يحاسبوني وينزلوا». تدوّي أصوات الاحتجاج وتتطاير الشتائم، وما كان على البعض إلا أن ركب سيارة أجرة، فيما آخر انتظر أحد أقاربه بعدما أجرى اتصالاً به. رحلة الساعتين استغرقت ثلاث ساعات ونصف ساعة، وحده صوت فيروز كان عزاء الركاب عن بلد يدفعون فيه كل ما فوقهم وما تحتهم لسد ما عليهم من الضرائب الكثيرة، فيما لا يُتعب نفسه حتى بمجرد الاهتمام بتأمين وسائل النقل العام.